الثورة أون لاين – فاتن أحمد دعبول:
هاني الراهب .. الوباء المعنوي أشد ألماً
عندما يحيط بنا شبح الوباء من كل جانب، ويصبح الموت نهاية محتومة لأناس كانت لنا معهم ذكريات وأمنيات وأحلام مؤجلة، نقف حائرين مذهولين أو بل عاجزين عن إنقاذ من نحب ، ونحن لم نمتلك تلك الخبرة في التعامل مع عالم الأوبئة إلا من خلال روايات وحكايات صنفت في إطار أدب الأوبئة ، كنا نقرؤها ربما بقلب بارد واعتبارها واحدة من شطحات خيال الكاتب رغم واقعيتها في كثير من تفاصيلها.
واليوم إذ نعيش تفاصيل حقيقية مؤلمة في واحدة من أخطر الأوبئة التي انتشرت على مساحة العالم جميعه ، ولأول مرة تقف علوم الطب والتكنولوجيا والتقنيات الحديثة عاجزة عن إيقاف انتشاره إلا في إجراءات لم تكن في الأغلب الأعم إلا محاولات يائسة على مبدأ” آخر الطب الكي”. تعود بنا الذاكرة إلى رواية” الوباء” التي تجاوز فيها الكاتب هاني الراهب فكرة الوباء الحسي إلى الوباء المعنوي وهو الأشد ألما.
– تحفة روائية
رواية” الوباء” يتناول فيها الكاتب فكرة الأرض بكل تجلياتها مكانا ومعنى ، فالسائرون على هذه الأرض راحلون منها بأي سبب كان، وسيذهبون وتبقى هي ، إن فكرة حياة الأرض في مقابل الموت الذي عبر عنه بالوباء تبقى ساكنة في الضمير .
وفي تحفته الروائية يستعيد الراهب بعمق وصدق ومكاشفة تشكلات القرن العشرين ، على خلفية الحرب العالمية الأولى ، والسفربرلك ، ويدمج السيرة الذاتية بالمناخ العام ببراعة ، متتبعاً مكابدات أسرة من الفلاحين عبر أجيال متعاقبة في هيكلية روائية لكنها واقعية.
ومن يتتبع أحداث الرواية سيكتشف مقدرة الراهب الكبيرة على نسج تفاصيل الحكاية وإعادة تشكيل البيئة المحلية بكل تفاصيلها وقسوتها وخرابها الروحي، عبر عملية حفر عميق في المكان والأسطورة والسجال السياسي، راصداً بشراسة ملامح التبدلات الريفية وانغماس شخوصه في متاهات المدينة منذ بدايات القرن إلى سبعينياته.
ولابد أن يلحظ القارىء ملامح من سيرة عائلية تتواتر مع الطفولة المضطربة التي عاشها المؤلف، كذلك فإن شخصية” مريم خضير” تكاد تكون نسخة عن والدته ، فيما تغيب صورة الأب ، ليس في الوباء وحسب ، بل عن معظم أعماله في إشارة إلى موته المبكر.
ويعتبر هاني الراهب أنموذجاً للروائي المجدد والمتجدد ، عمل على تطوير الرواية السورية من خلال اشتغاله وبحثه الدؤوب عن التعبير الروائي والتقنية الروائية واقتصاد اللغة ، وكانت روايته” المهزومون” التي فازت بجائزة دار الآداب في مسابقة الرواية العربية ، نقلة نوعية ليبرز بعدها كفنان يمتلك رؤيا من نوع خاص وحدساً بالمستقبل يقترب من النبوءة في بعض ملامحه.
وأخذ بعدها يطلق صرخاته المتمردة على الواقع المتردي، وبدأت مسيرته الإبداعية الطويلة التي رصد خلالها هموم ملايين الناس في هذا الوطن الكبير.
وفي عودة إلى روايته” الوباء” نقف عند حكايته التي تبدأ في الشير ، في تلك الفسحة المربعة بين كتلتين من الجبال ، تنتهي آجال وتولد أجيال ، ومابين الولادة والموت فسحة للحياة تتلون بألوان يختارها الكاتب من أجل أن يكمل دورته الروائية كما الحياة التي خبرناها بألوان متعاقبة تأخذنا إليها عبر مسارات لاندركها.
وضمن هذه الأجواء ينتقل هاني الراهب متابعاً دورة الزمان لهذه العائلة السنديانية الآتية من ذلك المكان الممتد بين مرابع الصحراء إلى بلاد الشام وزمان ينحدر من السفربرلك إلى اليوم الحاضر ، يتتابع الأشخاص ، يتغيرون بتغير أماكنهم وأزمانهم ، يموت أشخاص ويولد غيرهم ويبقى وجه الحياة وحسها الآتي من معانيها قابعا في كل حياته.
– من أجواء الرواية
” كان شيخ السنديان في السبعين من عمره ، لم يبك ، لم يتكلم وتركوه يمضي ، وفي اليوم التالي لليلة الدم ، نهض من نومه، صلى عند السنديانة العتيقة ، شاهد الفجر والشروق ، شرب من ماء النبع ، وعندما اجتمع حوله فلاحوه كان جالسا تحت السنديانة ، أخبرهم أنه يريد أن يتزوج ..
وفي ذلك المساء تزوج فتاة في السابعة عشرة من عمرها ، وبعد تسعة أشهر ولدت زوجته ابنا ، وبعد ستة عشر عاما، تزوج الابن للمرة الأولى ، وبعد أربعين عاما قتل الابن عشرة رجال أشداء من آل المعتز ..”
وهنا نلاحظ أن للأديب دوراً لايقل عن دور الطبيب ، ففي الوقت الذي يجتهد الطبيب في البحث عن عقار ناجع لشفاء المرضى والتخفيف من آلامهم ، يسعى الأديب على الجبهة الأخرى إلى محابرة الجهل والظلم وبث الوعي بين أفراد المجتمع لجعل العالم أكثر سلاما.
وعندما يعمل الأديب على توثيق مرحلة معينة أوظاهرة أو وباء لاشك يشكل ذلك مرجعا للدارسين والمهتمين للحصول على مقاربات بين مايحدث اليوم من معاناة الناس في ظل انتشار وباء” الكورونا” وبين أوبئة مماثلة رصدها الكتاب في نتاجاتهم الأدبية ومحاولة استشراف كيف كانت أحوال الناس خلالها وكيف تمكنوا من تجاوزها.
– حياته
ولد هاني الراهب في مشقيتا في محافظة اللاذقية للعام 1939، ودرس الثانوية العامة فيها وحصل على المرتبة الثانية على مستوى سورية, التحق بعدها بكلية الآداب جامعة دمشق ، وتخرج منها من قسم اللغة الانكليزية ، ونال شهادة الماجستير من الجامعة الأمريكية في لبنان وشهادة الدكتوراه من جامعة لندن.
من رواياته” المهزومون، بلد واحد هو العالم ، التلال ، شرخ في ليل طويل ، خضراء كالمستنقعات، ألف ليلة وليلتان ، رسمت خطا في الرمال ..”
عانى لمدة طويلة من مرض السرطان ، وتوفي في دمشق للعام 2000 ، وتعد روايته الوباء من أشهر رواياته ، واعتبرها اتحاد الكتاب العرب واحدة من قائمة الروايات المئة الأوائل في تاريخ الأدب العربي ، تناول فيها أسئلة هامة وعديدة لا يجد لها أي جواب في الواقع ، عن ” الحرية والديمقراطية ومكان الإنسان الواعي والمثقف في المجتمع المدني ودوره في مجتمع لايدرك قيمة المعرفة والثقافة ..”