الملحق الثقافي:حامد العبد:
كلما تقدمت الأمم في مسيرتها الحضارية، ازدادت حاجتها إلى توثيق المعلومات والبيانات الضرورية من أجل الحفاظ على تقدمها وعدم تراجع مستوى المعرفة عند شعوبها، وتسهيل وصول هذه المعلومات إلى الباحثين عنها بالشكل الأمثل والأسهل، بعد إجراء العمليات اللازمة من تصنيف وفرز للمعلومات، التي باتت في عصرنا تتدفق بطريقة لم يسبق لها مثيل عبر التاريخ كله.
تعريف
للتوثيق تعريفات كثيرة تبعاً للمجال الذي يخدمه، ووفقاً للطريقة التي يتم الاستفادة منها، فالكثير من المتخصصين (وهم الغالبية) ينظرون إليه على أنه علم قائم بحد ذاته، ويعرفونه بأنه العلم الذي يهتم بتجميع المعلومات أو الوثائق وتخزينها وتصنيفها للاستفادة منها لاحقاً، أو هو علم السيطرة على المعلومات، ويقصد بالسيطرة هنا الإجراءات الفنية المعتادة كالتجميع والفهرسة والتصنيف وما شابه ذلك، والإجراءات الفنية الحديثة التي تضمن سرعة الوصول إلى المعلومة ومصادرها، وبالسرعة المطلوبة، وذلك في أكثر من مكان واحد، وفي الوقت نفسه إذا لزم الأمر.
في حين يرى البعض الآخر أن التوثيق هو فنٌ أكثر منه علماً.. فنٌ يعتمد على حسن التدبير وعلى حذاقة القائمين عليه، لاستشعار أهمية المعلومة التي قد تبدو عادية ولا يوليها الآخرون أية قيمة تذكر، ويعرِّف هؤلاء التوثيق بأنه فن تجميع وتصنيف وتسهيل الإفادة من مختلف الأنشطة الفكرية والمادية، أو هو فن تسهيل الحصول على المعلومات ذات الأهمية النوعية وتجميعها وتسهيل استخدامها. ومن الملاحظ أنَّ بين جميع هذه التعريفات تقاطعات كثيرة، ستقودنا في النهاية إلى نفس المفهوم عن التوثيق، ولكن بطرق مختلفة.
علم التوثيق
وفي الوقت الذي يعتبر فيه بعض المتخصصين أن بداية علم التوثيق تعود إلى العصر الحديث عصر الحاسوب والشبكة العنكبوتية، يرى الكثير منهم أن التوثيق بمفهومه الشامل والعريض يعود إلى أقدم من ذلك بكثير، إذ يردُّه بعضهم إلى بدايات الإنسان نفسه، أي قبل الميلاد بعشرات الآلاف من السنين، ولعل بقايا الرسوم التي رسمها الإنسان البدائي على جدران الكهوف، كانت تُجسِّد شكلاً عفوياً وفطرياً من أشكال التوثيق لرحلات صيده، وصراعه من أجل البقاء، وبالفعل نستطيع القول في وقتنا الحاضر، إن هذه الرسوم على بدائيتها استطاعت أن توصل لنا «معلوماتٍ» وإن كانت ضبابية عن تاريخ إنسان العصر الحجري. وبعد ذلك استطاعت حضارة ما بين النهرين وحضارة وادي النيل، قبل ستة آلاف عام من الآن أن تصلا إلى مستوى رفيع من الكتابة التصويرية، وبالتالي يمكننا القول إن هاتين الحضارتين قد دخلتا في عصر التدوين، الذي لم يتم اللجوء إليه إلا لتوثيق معلومات عن التاريخ والأمجاد السالفة وسير الملوك والأبطال، وعن الطقوس الدينية والقوانين والشرائع وغير ذلك من المعلومات، التي كان ينظر إليها على أنها تستحق التوثيق خشية ضياعها.
وقد كان التدوين في بادئ الأمر ينقش على جدران المعابد والقصور، أو على المسلات الحجرية العملاقة كما هو الحال عند قدماء المصريين، إلا أن السومريين استطاعوا في الألفية الثانية قبل الميلاد أن يبتكروا آلية جديدة للتدوين، وهي الكتابة على ألواح طينية مشوية (الرقم)، وبعدهم بحوالي قرنين استطاع قدماء المصريين التوصل إلى اختراع ورق البردي والتدوين عليه، وبهذين الابتكارين حقق التدوين قفزة كبيرة إلى الأمام، إذ بات من الممكن نقل الوثائق التي دونت عليها المعلومات المهمة من مكان إلى آخر، بعكس الجدران والمسلات الثابتة، الأمر الذي سهل انتشار المعلومة بين النخبة القادرة على القراءة حينها.
أما النقلة الحقيقية الكبرى في مجال التدوين والتوثيق، فقد تمثلت في اختراع أول أبجدية في التاريخ خلال القرن السابع قبل الميلاد على أراضي سورية القديمة، الأمر الذي مهد الطريق لانتشار الكتابة في كل أرجاء العالم، وسهل تدوين الوثائق في الكتب والرسائل.
ولكن ألم يكن هناك شكل آخر للتوثيق في العالم القديم، خلاف شكلي التدوين الكتابي والتصويري؟
مما لا شك فيه أن أكثر أشكال التوثيق شيوعاً في العصور القديمة والوسطى، كان التدوين الشفهي للمعارف والمعلومات، ونقلها من جيل إلى آخر، وهذا ما تسبب في ضياع وتشويه الكثير من المعارف الإنسانية عبر التاريخ، إلا من أحاطت به يد التدوين الكتابي لتنقذ ما تبقى منه وتوصله إلينا في عصرنا الحديث. والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، لعل من أبرزها تعاليم وفلسفة الفيلسوف سقراط نفسه، الذي يعتبره مؤرخو الفلسفة نقطة التحول الأهم في تاريخ الفلسفة، ومع ذلك كادت فلسفته أن تندثر إلى الأبد، لولا تلميذه المخلص أفلاطون الذي قام بتوثيقها من خلال كتبة ومحاوراته الشهيرة، والأمر نفسه ينطبق على شاعر الإغريق الأشهر هوميروس، صاحب أعظم ملحمتين في تاريخ اليونان (الإلياذة والأوديسة)، واللتين لم يتم تدوينهما إلا بعد قرون من وفاة مؤلفهما نفسه، والذي لا نعلم عنه إلا النزر اليسير، لدرجة تشكيك البعض بحقيقة وجوده أصلاً، بعكس ملحمتيه اللتين لا يستطيع أحد أن ينكر فضلهما في تزويدنا بالكثير من المعارف والمعلومات عن طبيعة حياة وأساطير اليونانيين القدماء.
أما في حضارتنا العربية، فلم يختلف الأمر كثيراً عن سابقتها الإغريقية، إن لم نقل إنه كان أكثر سوءاً، إذ إن حقبة الجاهلية بكل ما فيها من أدب وأشعار وخطب وأمثال، لم يتم توثيقها إلا عن طريق النقل الشفهي ولمدة قرون بعدها، وكان على هذه المعارف أن تنتظر حتى يستقر المقام بالدولة العربية وتوطِّد أركانها وتزدهر معيشتها، لتشهد حركة تأليف وكتابة محمومة استطاعت من خلالها توثيق آداب الحقبة الجاهلية وما بعدها. ولكن هذا لم يمنع الريبة والضبابية من أن تُحيطا بأعمال الكثير من الشعراء وحياتهم، مما شجّع البعض في التشكيك بها، لعل من أشهرهم طه حسين في كتابه (في الشعر الجاهلي) الذي كتبه في العام 1926.
ومن المؤسف أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحدِّ، فقد فقدنا أعمال الكثير من كبار كتاب عصور الازدهار العربي، إما نتيجة الحروب والصراعات الداخلية، أو نتيجة الغزوات الخارجية وتدمير المكاتب حينها، أو لا هذا ولا ذاك، بل نتيجة الإهمال والاستهتار. فأديب عظيم كالجاحظ يروى أن له أكثر من مائتي مؤلَّف، لم يصلنا منها إلى العدد القليل. بمعنى آخر، لقد فقدنا جزءاً من تاريخنا الحضاري والجمالي والإبداعي وإلى الأبد، وهذا ما يقودنا إلى أهمية التوثيق الأدبي، والذي ينظر إليه البعض على أنه مجرد رفاهية، أو أن أهميته تأتي في الدرجة الثانية بالمقارنة مع الأصناف الأخرى من أنواع التوثيق.
توثيق الأدب
في عالم الأدب، ربما كانت أهمية التوثيق لا تقل أهمية عن العمل الأدبي ذاته في كثير من الأحيان، والذي لولاه لذهب هذا العمل أدراج النسيان، وكم من كاتب لم يتسنَّ له نشر مؤلفاته إما لأسباب خارجية كأن توافيه المنية دون نشرها، فيتولى أحدٌ ما فعل ذلك بالنيابة عنه، كما حدث مع رائدة الحداثة في مجال القصة القصيرة (كاثرين مانسفيلد)، والتي ماتت في سن الرابعة والثلاثين من عمرها فقط، فتولى زوجها (موري) مهمة نشر أعمالها وتعريف الأوساط الأدبية على أسلوبها الحديث في فن القصة القصيرة.. أو لأسباب ذاتية، كما حدث مع عملاق الأدب الألماني (فرانز كافكا)، صاحب أدب الواقعية العجائبية، حين عثر صديقه (ماكس برود) على قصاصة كتبها كافكا في ساعة يأس ومعاناة من مرض السل، يرجوه فيها رجاءً أخيراً بأن يحرق كل مخطوطاته غير المنشورة. ولكن لحسن الحظ لم يكن ماكس وفياً لوصية صديقه وقام بنشرها، ليُطلع العالم على أحد أعظم الإنتاجات الأدبية في تاريخ الأدب.
لقد كان على البشرية أن تنتظر حتى القرن الخامس عشر ميلادي، لتشهد طباعة أول كتاب يخرج من مطبعة يوهان غوتنبرغ، الأمر الذي منح البشرية القدرة ولأول مرة للنشر الواسع للنصوص والمعلومات المكتوبة أو المنقولة شفهياً، فكان هذا الأمر بمثابة ثورة عظيمة في عالم التوثيق، لم تشهد البشرية لهذه الثورة مثيلاً بعد ذلك حتى النصف الثاني من القرن العشرين، حين اجتاحت العالم ثورةٌ في عالم المعلومات نتيجة الثورة في عالم الاتصالات، أو كما يحلو للبعض تسميتها بمرحلة (انفجار المعلومات)، حيث باتت الحاجة ملحة لتصنيفها وتجميعها وتخزينها بطريقة محترفة، وذلك من أجل سهولة العثور عليها من قبل الباحثين عنها في كافة المجالات. وبالذات أصحاب القرارات المصيرية، هذه القرارات التي إن لم تكن تعتمد على معلومات موثقة وبكمية كافية، كانت قرارات ارتجالية محفوفة بالمخاطر، ومن السهلِ أن يُكتب لها الفشل.
في النهاية نستطيع القول: إن الأمة التي لا توثق معارفها ومعلوماتها، أو تستهتر بعملية توثيقها، أو تعاني من ضعف في هذا المجال.. هي أمة بلا ذاكرة.. أو على الأقل صاحبة ذاكرة ضعيفة، سرعان ما يمحوها النسيان الجمعي لأبنائها، ويسهل على هذه الأمة أن تقع في النكسات الواحدة تلو الأخرى.. لأنها بكل بساطة أمةٌ لا تتعلم من أخطائها.
التاريخ: الثلاثاء27-10-2020
رقم العدد :1018