الملحق الثقافي:غصون سليمان :
إنها حكاية مرصد جبل الشيخ، وحكاية اليوم الأول للتحرير بعدسة الإعلام الوطني. تلك الصورة التي أسقطت رهان العدو الإسرائيلي.
في ترانيم العشق للوطن، ثمة سيمفونية قادرة على أن تصل إلى أوسع المسارح، مهما صعبت درجات السلم وتعثرت بعض الأدوات الفنية والتقنية، فالصوت الواثق يعلو بصفائه ويسمع من أنعشه الطربا.
لم يخطر ببالي يوماً أن أرى السعادة تخطفني من نفسي وأنا في طريقي اليها دون علم.. إنه قدر جميل ومفاجأة بمعيار كنز معنوي لا يقدر بثمن.
في الخامس من الشهر العاشر لعام ٢٠٢٠ كنا على موعد في مبنى اتحاد عمال دمشق لحضور احتفالية سينمائية بعنوان “تشرين اكتمال النصر المدهش” بمناسبة مرور ٤٧ عاماً على ذكرى حرب السادس من تشرين الأول ١٩٧٣. هذه المعركة التي تعد من أهم المعارك العسكرية الفاصلة في تاريخ الأمة والمنطقة والعالم على الصعيد السياسي والعسكري، حيث جميعنا كسوريين شاهدنا الكثير من صور المعارك الحية لمجريات الحرب وقتذاك.
فمن كان وراء تلك الصور الحية، وما سر الصبر والجلد والقوة في رحلة الوصول إلى مرصد جبل الشيخ وتحريره منذ اليوم الأول؟
في التفاصيل كان لنا شرف اللقاء مع أحد أبطال حرب تشرين التحريرية، وهو أول من وثق بالصورة والمشاهدة مجريات الحرب، والذي كان سلاحه عين الكاميرا هذه المرة، حيث الصورة المرئية التي أسقطت كذب ونفاق العدو الإسرائيلي وتضليله للحقيقة منذ اليوم الأول لبدء المعارك.
دور الكلمة والصورة
عن تلك المهمة المعجزة والشقاء المحبب مع أبطال الجيش العربي السوري، ودور الكلمة والصورة في ذاكرة الوطن كأهم حاضن لنتاجه على جميع المستويات، يروي مدير التصوير سمير جبر وبكل دقة تفاصيل تلك الأيام المضيئة رغم قسوتها، باعتباره كان أول المتطوعين والخرجين الجدد لأداء هذه المهمة النبيلة مع عدد من الزملاء والأصدقاء. فهو يعرف تماماً المعاناة التي يعانيها أي مصور سينمائي أو تلفزيوني أو صحفي وموجود على الخطوط الأمامية لنقل الواقع على شاشات التلفزة. فالإعلام له دور كبير جداً في إثبات الحقيقة.
يتحدث جبر عن تجربته الخاصة؛ كيف أن قواتنا الخاصة استرجعت مرصد جبل الشيخ منذ اليوم الأول لبدء المعارك مع العدو الإسرائيلي، لكن إعلام العدو كان يكذب باستمرار على أنه ما زال في أيديهم، وظل يكذب حتى تمكن الأبطال من الجنود المقاتلين وفريق التصوير من تصوير رفع العلم العربي السوري فوق مرصد جبل الشيخ، ولم تعترف إسرائيل بسقوط المرصد إلاّ بعد عرض تحريره على شاشة التلفزيون العربي السوري في اليوم الخامس للمعارك.
يقول جبر في البداية وقبل تنفيذ المهمة أنه في عام ١٩٧٣ كان خريجاً جديداً وموفداً للعمل في التلفزيون لم تمض عليه عدة أشهر. ومع بداية الحرب دعي البعض للتطوع لتصوير معارك جبل الشيخ ورفع العلم السوري على مرصده، فكان جبر أول الراغبين بتلبية المهمة ليكون جزءاً من هذا الشرف الكبير، وقد شاركه في هذه المهمة أحد الزملاء الأصدقاء الذي كان معه في المرصد، عدنان نساف، المصور في التلفزيون السوري الذي كان وقتها مساعد مصور، والمصور الفوتوغرافي بشير شحرور. ويضيف أنه في اليوم الرابع للمعركة تمكن العدو من استرجاع المرصد، لكن المعارك لم تتوقف لحظة في المرصد ولا على الجبهة كاملة. ويذكر كيف دعي إلى الأركان للتزود بالتعليمات والتحذيرات اللازمة المطلوبة هو وزملاؤه “عدنان وبشير”، لا سيما الكمائن الموجودة على الطريق، لكن المفاجأة حين أخبرتهم القيادة أنهم سوف يصعدون إلى مرصد جبل الشيخ سيراً على الأقدام، إذ لا يوجد أي وسيلة تنقل أو مواصلات. وذكر من باب الدعابة والتندر كيف أن البعض لم يعجبه شكلهم مع عبارة “هؤلاء سيصعدون إلى مرصد جبل الشيخ مشياً؟ انطلاقاً من موضة الشباب في تلك الأيام: شعر طويل وحذاء بكعب عال بعض الشيء. المهم أنهم خرجوا من مبنى الأركان حوالي الساعة العاشرة والربع بسيارة زيل عسكرية أوصلتهم إلى بلدة حضر عند نقطة الخزان. وكان معهم مجموعة الحماية المؤلفة من قائد المجموعة الملازم أول فواز خدوج و10 جنود، ومجموعة الحماية هذه وبنفس اليوم الذي توجهوا فيه إلى المرصد، كان بحوزتها مجموعة أسرى من المرصد لجنود العدو، لتعود معهم للحماية مرة أخرى.
ويتابع جبر أنهم وصلوا بلدة حضر في تمام الساعة الحادية عشرة، فبدؤوا بالمشي، لم يكن الأمر سهلاً بالتأكيد. فالمعاناة كانت كبيرة نظراً لما يحملونه من معدات تصوير “كاميرا وحقيبة أشرطة وبطارية ثقيلة الوزن مع جهاز الضوء”، إلى جانب السير في الأودية الوعرة. صعدوا من شرق المرصد في الوادي، وما بين الصعود والنزول كان طيران العدو يعبث كل لحظة في سماء المنطقة بقصف متواصل، وما بين الحذر والرغبة في تأدية المهمة، وصلوا إلى أسفل المرصد في الجهة الشمالية، أي الجهة المواجهة لمرصد عرنة. في هذه اللحظات أصبحوا مكشوفين على الأراضي المحتلة، وأصبح المرصد على يسارهم بأعلى التلة. في هذه اللحظة جاءت ثلاث طائرات للعدو، اثنتان ذهبتا باتجاه المرصد واستطاع جبر تصويرهما، وواحدة توجهت نحوهم شخصياً مع مجموعة الحماية، وحين أصبحت فوقهم تماماً وهو يصور، انفتح الخزان المليء بالقنابل التي تساقطت على الأرض كالمطر، حينها انبطح جبر على الأرض ووضع الكاميرا تحت رأسه وتوكل على رب العالمين.
وبعد أن أصبح القصف عليهم مباشرة، ضعفت الرؤية نتيجة الغبار الذي غطى المنطقة كلها، والسمع أصيخ قليلاً، لكن وبشيء من التركيز تسلل إلى سمعه صوت خفيف ينادي (شباب اسعفونا). في هذه اللحظة قام جبر مباشرة بتصوير جنودنا الأبطال وهم يسعفون ثلاثة جرحى من مجموعة الحماية مع استشهاد زميل لهم رحمه الله.
هنا أنهى جبر التصوير، ونظر إلى الجهة الغربية ليرى وجه الملازم أول فواز خدوج الذي كان دائماً في المقدمة والمصورون وراءه ومن ثم مجموعة الحماية معفراً بالدماء وهو يشير لجبر أن ينظر إلى الأعلى منذراً إياه بطائرة أخرى قادمة باتجاههم، طبعاً في هذه الحالة كان الجنود الأبطال المرابطون في النقطة التي يتواجدون فيها آخذين احتياطاتهم جيداً حسب الطبيعة الصخرية للمنطقة، فيما جبر واقف يصور، لكنه للحظة اعتقد أنه يجب أن يركض هو أيضاً إلى أقرب صخرة يحتمي فيها، لأنه هدف مباشر في منطقة آمنة لا تتجاوز العشرة أمتار، وحين هم بالركوض نظر إلى الأرض كانت مزروعة بالقنابل المرمية من الطائرة ولم تتفجر بعد. في هذه اللحظة يقول جبر بأن الله سبحانه وتعالى يقدر المرء على التفكير الصحيح، ولطالما من الصعب البقاء أسرع بقوة باتجاه الصخرة بين القنابل محتمياً بالصخرة. ورغم ذلك قصفت الطائرة العدوة باتجاه المكان الذي هم فيه وجرح بطل رابع من أفراد الحماية، فيما نجت مجموعة التصوير بأعجوبة. بعد ذلك بدأت القنابل تتفجر في كل الاتجاهات وأعاقت التحرك لمن هو قادم من فوق وتحت إلى المنطقة. في النهاية كان هذا أول قصف يتعرضون له تحت المرصد مباشرة وفق ما وضحه المصور. وكانت الشمس قد قاربت على الغروب وهم لا يعرفون ذرة راحة منذ الساعة الحادية عشرة صباحاً، يتذكر جبر تلك اللحظات وكأنها شريط سينمائي مر أمامه.
ويشرح جبر بحديثه كيف جاء إليه الملازم خدوج وقال له: “يا صديقي بدك تطلع عالمرصد لوحدك، لأنه لدينا جرحى وشهيد ويجب تأمينهم إلى الخطوط الخلفية، وسوف يرافقك في المهمة الرقيب شوكت الياسين من المجموعة”.
وبكل شجاعة ورضا وإيمان بالفوز والنصر، أبدى البطل جبر الرغبة بتنفيذ المهمة التي جاء من أجلها برفقه الرقيب شوكت الياسين، فهو الوحيد الذي وصل معه إلى مرصد جبل الشيخ ومجموعته، تقريباً قبل الغياب بربع ساعة حيث كانت الرؤية تتلاشى شيئاً فشيئاً، وأخذت العتمة ترمي ظلالها على المكان. استقبلهم هناك قائد مجموعة الاقتحام بالمرصد الرائد محمد الخير وقت ذاك مرحباً بقدومهم وطالباً المكوث في الخنادق، إلى أن يحل الظلام حتى يتم تأمينهم في منطقة آمنة. أخذوا بعض البطانيات وتدثروا بها. وفي هذه اللحظة يذكر جبر ما قاله الرائد محمد الخير حين رآه بلباسه المدني “أنت هنا نقطة علام، لابس بلوزة بيضا.. أنت هدف للطيران”. طبعاً مع ابتسامة وحرارة قول فيه كل التقدير للجهد الذي يقوم به.
ويتابع أنه وبعد حلول العتمة اتصل الخير بالمرصد الذي أصبح في الجهة الشرقية، وقواتنا الباسلة متمركزة على الجهة الجنوبية الغربية للمرصد. اتصل بقائد مجموعة التطهير بالمرصد الملازم وليد تامر قائلاً له: أرسل لي أحداً ما ليأخذ الشباب إلى “الهيلتون” (والمقصود به مرصد جبل الشيخ). وبعد قليل جاء الشاب وأخذنا إلى المرصد الذي تموضعت فيه المغاسل على الجهة اليمنى وفي الجهة اليسرى توجد محركات الكهرباء التي دمرتها قواتنا الباسلة. فالمرصد بكليته يعتمد التكنولوجيا، فكل أبوابه وأدواته الداخلية جميعها تعمل على الكهرباء. فالشباب الأبطال لم يدخلوا بعد إلى الداخل، هم كانوا يسيطرون على المرصد من الخارج ولم يسمحوا لنا بالدخول الى داخل المرصد باعتباره لم يطهر بعد بالشكل المطلوب، وأعطوا الأوامر بأن تدخل مجموعة التصوير إلى المغاسل بغية الراحة والنوم ولو لدقائق، وإلى أن يحين الصباح بفرجها الله. لكن في الواقع كان من الصعب النوم نظراً للقصف المتواصل طوال الليل، وفي الوقت نفسه كان الألم والوجع يعتصر القلب كما يصفه جبر نظراً لأعداد الجرحى الموجودين، فلا مكان للاستراحة أو النوم، وعلى مساحة متر قضوا ذاك الليل برفقة بطانيتين كأنهم صف “يبرق” لضيق المكان دون أن تغمض لهم عين بسبب القصف طوال الليل.
ومع بزوغ الفجر جاء الملازم وليد تامر وقال للمصور جبر: “أبو سمرة بدنا همتك، فهل أنت جاهز؟”. قال له: “نعم وعلى أتم الاستعداد”. فقال الملازم تامر لجبر: “نريد منك الضوء والبطارية التي معك لكي ندخل ونطهر المرصد لعدم وجود الكهرباء”. فقال جبر: “نحن جميعاً جاهزون لأداء المهمة، نحن قادمون من أجل الظفر بالنجاح والنصر، فأنا والكاميرا والضوء بالخدمة”، فقال تامر: “أنتم تعرفون ربما تكون هناك خطورة عليكم”. رد جبر: “نحن أتينا لتنفيذ مهمة عظيمة، ويجب أن نصور كل شيء مع رفع العلم السوري فوق المرصد”. وعلى مضض وافق الملازم تامر أن ندخل معه، دخل هو أولاً وأنا وراءه مع الكاميرا وبعدي عدنان نساف بالضوء، ومن ثم بشير شحرور يصور فوتوغراف، وهذا كله تم عرضه فيما بعد بفيلم “وجاء تشرين”.
يروي جبر أيضاً كيف دخلوا برتل إلى المرصد، فقد كانت المطابخ على اليسار، حتى اللحمة كانت مازالت معلقة رغم فسادها، وعلى اليمين نقطة صحية تضم جرحى وقتلى العدو ومنهم من كان في العناية المشددة. إلى جانب النقطة الصحية صالة ألعاب واستراحة كبيرة فيها كل وسائل الترفيه. وباستمرارهم بالهبوط إلى الأسفل كانت المهاجع على شكل قوس ترفع الأسرة أثناء النهار إلى الأعلى وتفرد أثناء النوم، فيما تحتها بقليل كانت توجد غرفة المراقبة التي كان العدو يراقب من خلالها كامل المنطقة عبر شاشات تلفزة مرتبطة بأجهزة إلكترونية. كل شيء تم تصويره وتوثيقه. ومع استمرار النزول باتجاه الأسفل كان هناك سرداب يصل من المرصد إلى بحيرة مسعدة، طبعاً دون معرفة مجموعة الاقتحام والتصوير بخفايا الطريق. وحين تابعوا نزولهم لمسافات قليلة سمعوا أصواتاً من تلك السراديب فتوقفوا عن المتابعة، وهنا قال لهم الضابط المرافق: “أنتم انسحبوا يوجد خطورة مع إطلاق النار”. أخذوا تعليمات الخروج والانسحاب من المكان، فيما بقي ضوء البطارية مع أحد الجنود الأبطال على الرغم من استمرار ضعف إضاءتها واستنزاف طاقة البطارية حتى الرمق الأخير. ويوضح المصور جبر كيف ظهر الجنود السوريين من داخل المرصد مع طلوع الضوء ومعهم تسعة أسرى من جنود العدو الإسرائيلي، فالعملية كلها بتقديره لم تستغرق أكثر من نصف ساعة.
الوصول إلى المرصد
لكن همهم وعهدهم كان هو أن يرفعوا العلم الذي يحملونه في قلوبهم وصدورهم قبل جيوبهم. بدأ الشباب الأبطال بمحاولة أولى لتنفيذ العملية، لكنهم لم يتمكنوا منها نظراً لكثافة القصف الجوي لطيران العدو الذي لم ينقطع في اليوم الخامس حتى لدقائق، لكنهم لم ييأسوا كما يؤكد جبر وعادوا للمحاولة مرة ثانية، في المحاولة الثالثة نجحت الخطة حيث صعد أحد الأبطال مستلاً السارية الموجودة والمحضرة على سطح المرصد، وعلى كتفيه صعد جندي آخر ورفعوا العلم الوطني بقوة الحق رغم كثافة القصف، لكن وبسرعة مذهلة كانت النتيجة نجاة الجندي العربي السوري الذي وقف على كتف زميله ورفع العلم السوري، فيما استشهد ذاك البطل الذي ثبت أقدامه فوق المرصد في ذرا المجد.
هذا وفي حوالي الساعة الحادية عشرة كانت العملية منتهية حسب المصور جبر، والتي جرى فيها تصوير كل ما يتعلق بالمرصد من جميع الجهات وما جرى حوله من معارك طاحنة وهي مرئية بالأفلام التي تحدثت عن حرب تشرين التحريرية. ويلفت جبر أنه في الساعة الحادية عشرة من نفس اليوم حين ناداهم الرائد محمد الخير وكان قد طلب الضابط الذي كان يرافق شباب التصوير إذا كان بالإمكان تصوير مقبرة الدبابات الإسرائيلية، فتمت الموافقة على ذلك. فما كان منهم إلا أن عبروا الطريق المعبد الواصل من المرصد إلى مسعدة من الجهة الشمالية الغربية، لكن في الليل حاول الإسرائيليون استعادة المرصد عن طريق الدبابات، فكانت الحصيلة تدمير أبطالنا لـ ٤٨ دبابة للعدو، وفي أثناء التصوير في هذه النقطة التي تواجد فيها الضابط المرافق والمصور، كان طيران العدو يغير بشراسة على المنطقة، ما منع استكمال سيرهم في الطريق مع توجيه الضابط المرافق لجبر أن ينبطح على جانب الطريق، ومع كل قصف للطيران يصبح تنفيذ المهمة أصعب نظراً لكثافة الغبار والشظايا المتناثرة، ومع انكشاف الرؤية جاء الضابط ليسأل عن بطل التصوير سائلاً إياه: “هل تشعر بشيء؟”. قال جبر: “أنا بخير، لكنني لا أستطيع الحراك”. فكان جوابه: “طبعاً لا تستطيع التحرك لأنك تحت التراب”. سحبه عندها الضابط السوري إلى جانب الطريق وعادا إلى حيث كانا في المرصد نظراً لعدم الأمان. وبعد قليل من الوقت طلب الرائد محمد الخير من مدير التصوير سمير جبر بعد اشتداد الخطورة على فريق مجموعته، المغادرة والعودة من الطريق الذي سلكوه أول مرة، لكن جبر قال: “نحن ليس لدينا سلاح في حال تعرضنا لكمين”. كان الجواب: “هذه كومة من السلاح. خذوا ما يناسبكم تحسباً لأي طارئ”. لكن الزميل عدنان سفاف الذي سبق له وخدم العسكرية على عكس زميله جبر اعترض على ذلك من باب أنه إذا وقعا في كمين ومعهم سلاح، فستكون المشكلة أكبر لكن مع وجود الكاميرا فقط فالأمور تكون أهون إلى حد ما. فقررا الذهاب من دون سلاح.
طريق العودة
تابع فريق التصوير سيره بالاتجاه الذي سلكوه إلى أن وصلوا إلى منتصف التلة. أخذ الطيران الإسرائيلي يقصف المرصد عن طريق بلدة حضر ليكرر عدوانه أكثر من مرة على مواقع جيشنا وقواتنا المرابطة. ويتابع جبر الحديث قائلاً: “للحظة احترنا من أين نسلك وبأي اتجاه، فسمعت صوتاً يناديني من المرصد باسمي. قلت: من؟ قال: أنا الملازم وليد انتظروني كي آتي معكم. وصل الينا مضمداً رأسه وكانت إصابة زميله في رجله، ولكي لا نقلق أو نخاف اقترح علينا أن نسلك الطريق الذي يصل إلى عرنة بدلاً من طريق حضر. كانوا أبطالاً حقيقتين رغم جراحهم، ومع مرور الساعات الطويلة في الجبال، وصلنا إلى منطقة جبلية مقابلة لمرصد عرنة. هنا طلب الجنود الشباب استراحة قصيرة نظراً لجراحهم النازفة وكان الأمر بألا نتحرك. وما إن ارتحنا عندهم قليلاً حتى بدأ إطلاق النار من بعض النقاط الصديقة. كان منظرنا كمدنيين مثيراً للشك ولباسنا لا يناسب طبيعة المهمة التي كلفنا القيام بها، مما حدا بالرائد محمد الخير أن يقدم لي فيلت أحد الضباط الإسرائيليين الأسرى، فقد كنت أشعث الشعر بسبب كثرة الغبار فأصبحت هيئتي مثار شك من قبل بعض نقاط الرصد لجنودنا البواسل. وعلى الفور صاح وليد (صديق صديق) في الوقت الذي نبهونا أننا على حافة حقل ألغام طبعاً. هنا نزل من أعلى الجبل النقيب سليمان سليمان برفقة جنود مع الكاشفات ومشينا وراءهم على خطواتهم إلى أن تخطينا الجبل نزولاً. وحين بدأنا نتسلق جبل عرنة جاء طيران العدو مرة أخرى فاحتمينا انبطاحاً على الأرض كالعادة، فيما النقيب سليمان ظل واقفاً غير آبه بكل جولات الطيران الإسرائيلي، وكان يمتلك من الشجاعة ما يفوق حدود الوصف. وحين وصلنا إلى مرصد عرنة كان القصف الإسرائيلي على مدار الساعة فيما سيارات الإسعاف لم تهدأ لنقل الجرحى. هنا ودعنا الضابط سليمان طالباً أن نستقل أول سيارة إسعاف في عرنة مع عبارة (دبروا حالكن). أتذكر وقتها أنهم أعطونا خبز صمون وعلب طون وتفاح أحمر رغم وجود الطعام الكامل في المرصد “تموين وفير من كل شيء”، لكن الوقت المخصص لأداء المهمة لم يسمح لنا بتناول لا طعام ولا شراب. كان الوقت معبأ بالتفكير بكيفية إنجاح المهمة وحين جاءت سيارة الإسعاف، كنت أمسك بقطعه التفاح فرميتها من يدي فيما قطعة الصمون وعلبة الطون ضممتها إلى صدري مع عدة التصوير. حين نادانا الضابط كانت المساحة الآمنة لا تتجاوز المائة متر للوصول إليها فالقصف الإسرائيلي يعيق الحركة إلى حد كبير، ومع ذلك تمكنا من الدخول إلى سيارة الإسعاف التي لم تكن تتسع لقدم واحدة نظراً لأعداد الجرحى فالموقف لم يكن سهلاً”.
في مبنى التلفزيون
ويتابع جبر قي سرد تلك اللحظات: “وصلنا إلى عرنة وسنح لنا الوقت بالاغتسال والحصول على قسط من الراحة إلى أن أمنوا لنا سيارة عسكرية أوصلتنا إلى التلفزيون العربي السوري الذي أعمل فيه، وما إن وصلنا إلى بابه قال لنا الحارس موريس داعور (لوين جايين) لقد قصفوا مبنى التلفزيون منذ اليوم الثالث وهناك صاروخان لم ينفجرا بعد، على الفور ذهبنا إلى المحطة السرية وكان في استقبالنا خضر الشعار مدير عام التلفزيون وقتذاك. أخذ منا الأفلام على الفور لكن ومع الأسف حصل خطأ ما، أدى إلى ضياع جزء من الأفلام لأنهم وضعوها بمادة حمضية عن طريق الخطأ. عاود مدير التلفزيون الاتصال بي في نفس اليوم ليخبرني بما حصل والضرورة تستدعي تظهير الأفلام الوثائقية لعرضها في التلفزيون حيث لم تكن المادة المظهرة (البوزوتيف) موجودة إلا في مبنى التلفزيون الذي تعرض للقصف. وعلى الفور اتصلت بأحمد اللحام الذي كان يعمل في المختبر وأطلعته على ما حصل وضرورة المغامرة والدخول إلى مبنى التلفزيون بأي طريقة، فكان جوابه (لعيونك). دخلنا المبنى ووصلنا إلى المكان المخصص وشغلنا الآلات وظهرنا الفيلم وأخذناه إلى المحطة السرية حيث عرض وأذيع بنفس النهار. هذا النهار هو نفس اليوم الخامس للمعارك الذي اعترفت فيه إسرائيل بسقوط المرصد بعد عرض عملية تحريره من قبل الجيش العربي.
فالخلاصة التي أراد إيصالها الدكتور سمير جبر في عرضه الدقيق والمفصل لمجموعة من الأسئلة حول مجريات حرب تشرين التحرير، هو أن المرء لا يستطيع أن يأخذ مادة حقيقية وثائقية من الخطوط الأمامية للجبهة بدون معاناة.. و أي مصور يقوم بواجبه على الخطوط الأمامية يتعرض لمخاطر وصعوبات مختلفة، فإذا لم يكن الإنسان يمتلك إيماناً قوياً بقضيته وحبه لبلده، لا يمكن أن يستمر أو يقوم بأي مهمة صغيرة كانت أو كبيرة.
يقول د. سمير جبر: “دور كبير للإعلام في إثبات الحقيقة.. والمعاناة لابد منها عندما تكون على الخطوط الأمامية”.
ولعل الأجمل في حديث الدكتور سمير جبر عبارته الدافئة والتي ختم بها قوله بأن الجميع لديهم أعياد ميلاد، أما عيده الحقيقي الذي يفتخر به كل عام ويرفع رأسه عالياً بذكراه هو السادس من تشرين الأول ذكرى النصر والكرامة والسيادة.
التاريخ: الثلاثاء27-10-2020
رقم العدد :1018