الثورة أون لاين- عبد الحليم سعود:
بغض النظر عن النتائج الرسمية التي ستفرزها الانتخابات الرئاسية الأميركية في الساعات أو الأيام القادمة، والتي قد تأتي بالمرشح الديمقراطي جو بايدن إلى البيت الأبيض – النتائج حتى الآن تقول ذلك – أو تجدد للرئيس الحالي دونالد ترامب ولاية جديدة – وهو احتمال ضعيف – وبغض النظر عن النظام الانتخابي المعقد والمثير للجدل الذي تخضع له الولايات المتحدة الأميركية، فإن الإقبال الكثيف الذي شهدته هذه الانتخابات من قبل الناخبين الأميركيين حالة غير مسبوقة منذ مئة وعشرين عاماً يلفت النظر بشدة ويطرح الكثير من الأسئلة الكبيرة والمهمة.
ولعل السؤال الأهم كيف لبلاد تعيش ظروفاً صحية سيئة مع تفشي فايروس كورونا وتسجيله أرقاماً قياسية عالمياً لجهة عدد الإصابات وحصده أكثر من ربع مليون ضحية، أن تقبل بكل هذه الكثافة على الانتخابات مع احتمالات العدوى القاتلة، ما لم يكن هناك شيء ما في غاية الخطورة يريد الأميركيون أن يتخلصوا منه؟!.
ما من شك أن شخصية الرئيس الحالي الذي دخل البيت الأبيض قبل أربع سنوات على إيقاع مظاهرات مناهضة له تلخص الإجابة على السؤال الكبير، فهذه الشخصية بكل ما تحمله من صفات بعيدة عن الحنكة السياسية والدبلوماسية الناعمة والتواضع والاحترام، وتغلب عليها العشوائية والاستفزاز والرغبة بالصدام وإثارة المشكلات، لعبت الدور الأبرز في الإقبال الكثيف والمبكر على الانتخابات وكانت سبباً خفياً له، ففي مجتمع تنهشه الفوارق الطبقية والاختلافات السياسية والعرقية، ويعاني من مشكلات عنصرية مزمنة تتفجر بين الحين والآخر لأبسط حادث، شكّل ترامب بسياسته الغوغائية عامل جذب واستقطاب لفئة كبيرة من اليمين الأميركي المتطرف إضافة إلى أولئك الذين يشعرون بالتفوق والتميز العرقي على مواطنيهم من الأعراق الأخرى، في حين كان الشخص نفسه دافعاً لباقي فئات الشعب الأميركي من أجل التغيير بغض النظر عن الشخص الذي ينافسه في المقلب الآخر، بحيث أصبح العنوان الأبرز لهذه الانتخابات (مع أو ضد ترامب) رغم أن منافسه شخصية سياسية لها تاريخ طويل من العمل في وظائف مهمة.
ويضاف إلى ذلك أيضاً المؤشرات الصحية التي آلت إليها أميركا في ظل تفشي وباء كورونا إلى جانب المؤشرات الاقتصادية الصعبة، ناهيك بقضية مقتل المواطن الأميركي الأسود جورج فلويد على يد الشرطة العنصرية وهي قضية هزت المجتمع الأميركي في الأشهر الماضية ولاقت تعاطفاً مع العرق الأسود في كثير من دول العالم، والتي كانت شاهداً على تطرف ترامب وردود أفعاله المتهورة التي جرت أميركا إلى أحداث غير عادية في شهري أيار وحزيران الماضيين.
في مسألة تفشي وباء كورونا ظل ترامب طوال الوقت يستهتر بالوباء ويحمّل الصين المسؤولية عن تفشيه ويقترح طرقاً غريبة لمواجهة المرض، كما قصرت إدارته تقصيراً مفضوحاً في حماية الأميركيين رغم الإمكانات الكبيرة التي تمتلكها الولايات المتحدة، فالإجراءات الاحترازية المتخذة غير المدروسة سبب في تراجع الاقتصاد الأميركي إلى الوراء، وخسارة مئات آلاف الأميركيين لوظائفهم، وهو الرصيد الذي كان يفاخر به ترامب خلال ولايته الحافلة بالأزمات، أما قضية فلويد فقد أظهرت جانباً مخفياً من شخصية ترامب العنصرية، وكان أداؤه المستفز سبباً في احتقان الشارع الأميركي وحدوث اضطرابات وأعمال عنف غير مسبوقة.
وأما في المقلب الانتخابي، فطوال حملته الانتخابية لم يتعاط ترامب مع المسألة في إطار التنافس الشريف بين مرشحين كما تجري العادة في دولة كبرى تدعي الديمقراطية وتتدخل بشؤون الدول الأخرى تحت هذا العنوان، بل جعل من قضية فوزه في الانتخابات مسألة حياة أو موت، واضعاً نفسه فوق كل اعتبار، بحيث راح يستخدم أحط الأساليب التي يمكن أن تسيء إلى منافسه وتشوه صورته، كاتهامه بالجنون والزهايمر والارتباط بجهات خارجية وتلقيه مبالغ مالية من دول خارجية، وكان الأكثر إثارة للاستغراب تهديده بالذهاب إلى حرب أهلية في حال خسارته في الانتخابات، وعدم الاعتراف بالهزيمة، وهذا ما جعل منه مرشحاً رئاسياً مهدداً للأمن والاستقرار في الولايات المتحدة، في حين كانت اتهاماته لمنافسه بالسعي لتزوير الانتخابات قبل بدئها مؤشرا على عدم احترامه للنظام “الديمقراطي” الذي تنتهجه بلاده، وعدم اعترافه باللعبة السياسية المتفق عليها في هذه البلاد واستعداده لتخريب أمن البلاد من أجل بقائه في البيت الأبيض لتأمين مصالحه وربما مصالح قوى أخرى خفية.
كل هذه القضايا استفزت المجتمع الأميركي وجعلته راغباً في التغيير وإنهاء حكم ترامب، وما من شك أن التغريدات والتصريحات الاستفزازية التي تصدر عنه بين ساعة وأخرى مع كل فرز أصوات كل ولاية تذهب لخصمه، تؤكد عدم أهليته للبقاء في موقع الرئيس، فإعلان الفوز المسبق والتشكيك بعمليات الفرز واتهام منافسه بالتزوير، والتهديد بالذهاب إلى الشارع أو القضاء، لحسم المسألة كلها عناوين لشخصية مضطربة نفسيا لا تؤهله لشغل هذا الموقع، وربما يؤدي بقاؤه في البيت الأبيض في حال فوزه في هذه الانتخابات – وهذا أمر مستبعد بنسبة كبيرة – إلى كوارث داخل أميركا والعالم، ولاسيما أن الأربع سنوات الماضية من عمر ولايته الأولى كانت بمثابة كارثة أصابت أميركا والعلاقات الدولية، بحيث بات الكثير من حلفاء أميركا يتمنون خروجه من المشهد، لما ألحقه من أضرار بالبشرية وبكوكب الأرض، وهو ما يصعّب مهمة منافسه بايدن في حال فوزه، إذ يلزمه أكثر من ولاية رئاسية لتصحيح وترميم ما خربه ترامب إذا أراد التصليح والترميم فعلياً.