الملحق الثقافي:د. حاتم الفَطْناسي- تونس:
نعم «سنتي النثر وفتواي الشعر: صوت تتردد أصداؤه في (الأعمال الشعرية) لتوفيق أحمد، تردّداً تراوح بين الظهور والضمور، مرة هسيساً ليناً أو غمغمة ومرة أخرى صدى ووقعاً جسوراً. هكذا فهمتُ شخصية القابع بعيداً، هناك في أقبية النص، بل أمسكت ما أزعم أنه قانون الكتابة أو محورها الدوار. أعني الفلسفة الكامنة في القاع والرؤية الموجهة لما يسمى المناويل الأنطولوجية للشاعر.
كل قصائد هذا الكتاب فتاوى، بره آبقة من طوق النثر وسننه وانبنائه على «المعيار» بما يحمله من علائق منطقية بين الأشياء وبين الأشياء والأسماء بحكم المواضعات والإلف والعادة. النثر باعتباره يقظة والشعر بما هو حلم أو حيلة للانفلات من كل قيد أو سنة. إنه «الفتوى» والاستثناء الذي هو في الأصل القاعدة.
كل القصائد مشدودة إلى الطارئ المنتاب. هو كذلك بمقياس الزمن الموضوعي، لكنه في العمق الجوهر والأرومة.
كل ذلك يجعلنا نسعى جاهدين إلى اقتناص الشعرية في شعره لنجزم بأن «الحالة» هي «المفتاح التأويلي» اللازم لمقاربة هذه النصوص، وهي رديف للحلم أو مرقاة إليه. كذا الشاعر، دائماً حالم خلاق، يخرج من محدودية الأشياء ومعوقات العالم إلى رحابة الحلم وحرية الرؤيا. واللغة هي مركبته في ذلك الرحيل، تختزل المؤمل المرجو مقابل الممكن المتاح. إنه طقس لغوي هازج يلج الغيب ويلح على الباطن يهتك سره ويشي بالفرح الأول. توفيق أحمد يتبدى طفلاً حالماً بالغيب. فكأنما الأشياء لعبة في يديه أو خزف أو طين: «في الجسد اليابس غلغل الضوءُ/ جنّيةٌ نَفَرَت من هنا/ وجنية من هناكْ/ ركبَ البحرُ زورقَ عشقٍ/ صحارى تَمَطّتْ إلى الغيمِ/ تزرعُ فيها مفاتيحَ للماء/ والضوءُ/ يَكْمُنُ للبرد والمستحيلات/ يجرّ اليباس على رأسهِ/ ويُلهبُ في العمر فَيْضَ اخضرار/ ص 13-14». تنصَّتْ رؤياه: (رأيتُ أني أجمع الماء مع النيران/ وأنني أنهب من بيادر المراحل القادمة امتلاءها/ وأنني بالحلم الجانح أفضح الزمان… يُفجّرُ الأيام والمكانْ).»ص11»
ماذا يمكن للشعر أن يكون غير الحلم؟
هو ذاك، لكنه في نصوص توفيق أحمد ليس خروجاً عن سياق التاريخ، بل ترسّخ فيه، لحظة إنسانية خالدة يحلم الشاعر فيها بتناسق غريب عجيب هتّاك لكل تناسق قبلي آخر، فيه تغدو اليقظة حلماً ويغدو الحلم يقظة. هو بيت الشعر يجول فيه، لا عوائق ثمة، لا مقدسات. بل قول هو سقسقة الكون ونشيده الدافق. اختزال للزمن وتكثيف عظيمان، الصلب يغدو ليناً، الجامد يضحي سائلاً، الصامت يصبح ناطقاً والميت يقلب حياً. فالأشياء تحيا بأضدادها ولا تفسخ.
كل العلاقات السرية بين الموجودات تتوضح في منطق يستعصي على المنطق ويلغيه: «عندما تسرقني الزرقة في البحر/ تصب الماء والنفيَ على فيضِ جروحي/ يتمطّى من عميق الحسِّ في صدري إلهٌ/ كاشفاً زرقة روحي».»ص23»
كل المجموعات الشعرية، طيّ هذا الكتاب، وإن بدت مجمعة على غير حجة أو ميزان، مشدودة بخيط سري رفيع ينظمها فلا اختلال. إنها تخضع إلى «استراتيجية» واعية تطال أبعاد الكينونة في انبنائها على الرحلة أولاً وفي دلالتها على توهج المراحل الإبداعية التي قامت عليها تجربة الشاعر ورحلته: «من غير رحيلٍ بين مطارٍ ومطارِ/ أَقْطَع أمداء اللحظةْ/ وأهوّم في السفر العاري/ بسفينٍ أتنكّب وهْم الرحلةْ/ وأغادرها بقطارِ/ وأُريقُ خصوبةَ عُمْري لسوايَ/ أعود بخفّي (توفيقٍ)/ بثمارٍ ليست كثماري/.»ص201»
بين مجموعة شعرية وأخرى ينزف الإحساس بـ»النقصان» وبـ»الحيرة» وبضرورة التشهير وفضح الواقع ومجادلة السّائد.
هي بدائل لفظية لحالة واحدة مجرّد كابدَها، والإشارة إليها تبديل لها أو تحقيق حالة أخرى على أنقاضها، حالة الامتلاء والتحقُّقِ والكينونة كما يرنو إليها الشاعرُ أو كما يراها: «تطويكَ الغابةُ في وحشتها/ يركضُ عكس الريح سفينُكَ (يا رمدانْ)/ جُنوحُكَ يُمسكُ ثوبَ جنوحكْ/ تدخُلُكَ الريحُ وتدخُلها/ لا تُقنعْ رَيحَكَ أنكَ داخلَها/ أنتَ غريبٌ في بيتٍ/ ليس له بيتٌ/(…) هل يأتي يومٌ/ نَجْرحُ فيها أكُفَّ محبتنا/ وندوّنُ بالحبر القاني/ أبياتَ قصائدَ نَشْربها كالهيل مع القهوة؟/(…) كم قُدَامَك يشبهُ خلفكْ/ خُذْ بيديكَ إليكَ/..»ص203-204-205»
بين مجموعة وأخرى بين نص وآخر يتراءى خلف الاطمئنان الظاهر أحياناً، ألمٌ ممضٌّ وحَيْرةٌ عارمة: «ولأن الحيرة تسكنني/ اُضطر لأن أتعامى وأُداري/ ولكي تتجانس أسئلتي أعقد صلحاً بين شجارٍ وشجارِ/ مرآةُ الرؤيا تتكسر فوقَ خيالي/ هل من مَلاحٍ يُنقِذُ أسراري؟!»..»ص201-202»
إنها حَيْرةُ المبدعِ «الحقُ» يتنصَّتُ صوتاً منبعثاً من الأغوارِ والآفاق، من رَدَهات الأبدية صاغَهُ الصوفيُّ الكبير محمد بن عبد الجبّار النّفريّ: «وأوقفني في الرّحمانية وقال لي لا ترضَ، فإنه لا يَرْضَى سوايَ، فإنْ رضيتَ محقتُكَ».
يَظهرُ ذلك من خلال عناوينِ المجموعات الست (أكسر الوقتَ وأمشي– لو تعرفين- نشيدٌ لم يكتمل- لا هدنةَ للماء- جبال الريح- حرير للفضاء العاري). وتظهر «الحيرة» أو «عدم الرضا» أو «النقصان» في دلالة الفعل (أكسر) أو في أداة الامتناع للوجود (لو) أو في المعنى (الريح).
كما يبدو الإصرار على الفعل، على تحقيق «الكمال» في «تظهير الحالة» وتخليقها لغوياً في تشكيلٍ شعريٍّ ما.
عاتٍ كالموت هو الشّعر، يصرّف نصوص توفيق أحمد يميناً أو شمالاً، مرة تأتي القصائد ومضةً فتبعث فيك حشداً من الرؤى وفيضاً من الظنون وغابةً من ممكنات الصور. ولعلّني لا أجانب الصواب إن جزمت بأن القصائد الومضات في مدوّنة الشاعر كانت نصوصاً والدةً، رحماً حاضنة منها انطلقت بقية القصائد وإليها ترتدّ.
لقد تضمنت قصيدة (ألوان) مثلاً بكسورها: (حالة/ تكوين/ حرية/ يقين)، كلَّ «المناويل» أو «المعانم»- كما يقول بعض اللّسانيين- التي تقدُّ المعنى الأكبر وتشكّله. ومرة أو مراتٍ ترد طوالاً يسلك فيها الشاعر مسلك: «دع النّفس تأخذ وسعها قبل بينها» كما يقول (المتنبي) أو بالأحرى مسلك دع الحالة تتشكل وتتفرع والصور تتداعى أو تتناسل أو تتصارع وتتقابل أو تتكامل أو تتماهى. يتحقّق ذلك في القصائد الغزليّة أو ما يمكن تسميته بقصائد حالة الغزل وما يدور في فلكها من معاني العشق والصبابة والهيام. غزّالٌ توفيق أحمد بامتياز: «وطرنا دون أجنحةٍ نغنّي/ على موجٍ من الغزل الرقيق.»ص114» دليله في ذلك «الحالة» أو تكوينه النفسيُّ والعاطفيُّ وبيئته الشامية الآسرة ومرجعياته الجمالية والمعرفية والنصّية الضّاربة بجذورها في نصوص عمر بن أبي ربيعة وصولاً إلى نزار قباني مروراً بحشودٍ من الشعراء والصوفيين عرباً وعجماً. يقدُّ نصوصه مرةً أهازيج أو غنائيات طربةٍ لا يتحقق فيها الغزل إلا بغزل خيوط اللغة وتفعيلات الشعر: «عينايَ طرّزتا/ فستانَكِ الخَمْري/ في ظلكِ اتكأتْ/ صفصافةُ النهرِ/ وبقدِّكِ اختبأتْ/ جنّية السحْر/ عينايَ قد فضحتْ/ ما جال في فكري/ من غيمكِ انهمرتْ/ عصفورة الشعرِ/».»ص228-229». ويقدّها مراتٍ واشيةً بالمعاناة ناضحةً بالإحباطات فتضمر نزعة الإنشاد ويحلُّ محلّها البوح والنشيج والنحيب ومرارة الذكرى أو حلاوتها: «ولمَ التوجُّسُ؟/ أمسِ شاهدتُ الرياحَ تئنُّ وهْيَ جريحةٌ/ هذا أنين الريح أم فرح الفؤادْ؟/ هذا أوان الحبِّ قومي يا سعادُ/ لكي نعيد لها البهاءَ/ بأيّ آلاء البهاء يكذّب الشعراء والخطباء والأمراء/ قومي يا سعادْ/ بحَّارة الميناء قد كسَروا السيوفَ/ وسلموا أشياءهم…/ فتوقعي في أي ثانيةٍ/ مروري كالغمام على جفافك/ أنا سندباد الوقت.. / وقتي بلادٌ هدّها الترحال من حلمٍ إلى حلمٍ/ ومن شوق يفيض إلى جراحٍ تُستعاد/».»ص324-325»
هكذا تبدو المدونة مزيجاً، حشداً «بانوراما» من الأشكال والألوان والأحجام والرؤى والمواقف هاجسها الرئيسُ «تظهير الحالة»، كما أسلفنا، أو تخليق الحالة بما أنها ليست مُعطى قبلياً سابقاً لإنشاء النص لغوياً، أي أنها «تنوجدُ»، كما يقول بعض أهل الفلسفة اليوم، لحظة كتابتها. وليست «الحالةُ» في الحقيقة زمناً هامشياً غفلاً مقطوعاً من إحداثياته التاريخية أو بمعزل عن «الموقف» أو الفكر، فالكثير من القصائد ليست إلا «ذرائع فنية» لتمرير فكرة أو الإيحاء بقناعة أو نقد وضع أو الإشادة به.
قصائد المدن والبلدان والجغرافيا مثلاً احتفت بالمكان، برمز فني أو بقيمة تحققت في فضائه أو أمر طبع تاريخه أو حادثة أو ومضة ذكرى أو نفس لفح الشاعر وهجه.. يكاد من آلامه»يَطُقُّ»/ لأنها نأَتْ../ لأنها نأت عن روحها دمشقُ».»ص14». «خذيني لعينيك بغدادُ/ هزي عصافيرَكِ البيضَ تصدحْ قناديلُ روحي/ نخيُلكِ هذا الحزينُ استحمَّتْ دمشقُ بهِ/ فانزفي يا سماءَ العراقِ لئلا تجفَّ النجومُ/ دمشقُ على فرس الحب جاءتْ/ على شَعرها وردةٌ/ في يديها حريق/ وفي راحتيها نسيمٌ أرقُّ/ إذاً فافتحي القلبَ بغدادُ/ ردي عليكِ عباءتَها/ أنت يا شامُ بغدادُ/ بغدادُ أنتِ دمشقُ».»ص328-329»
دمشق وبغداد واللاذقية واليمن وألمانيا «ونبع السن» وبيروت والبقاع وطرابلس والرقة وحمص وغيرها، ليست إلا تنويعات على حالات نفسية تنهض بوظيفة «التصعيد» العاطفي والوجداني من ناحية، والتصعيد الفكري والحضاري من ناحية أخرى، ليست إلا تسميات لمكان رئيس هو (بلدتي): «هي جزءُ هذا الكلِّ/ رُدوا دمعها المُنْثالَ خلَف تلالها/ وغيابَها.. وجميعَ أنواعِ الشجنْ/ لمَّا تَزَلْ ببداهة الأشياء وجهاً في تضاريس الزمنْ/ هي بلدتي/ من شمسها اشْتقَّ المدى طيرانَهُ/ في إصبعيها خاتمانِ: نصاعةُ العقلِ المبلل بالندى/ وتزاحُمُ الدنيا على يدها شُعَلْ». هي الحبيبةُ… /والحقيقةُ…/ والحديقةُ…/ والندى…/ هي سيفُ ملحمتي… وعرشُ قصيدتي».»ص379-380-381 «
في شعر توفيق أحمد وعيٌ حادٌّ بالانتماء ووشائج شتّى تجعل الأمَّ والأمَة والأرض، أمّنا الرّؤوم، تتماهى أو تتبادل الأدوار مع المرأة/ الأنثى رمزاً للحياة والخصوبة والنبض الحيّ. قصيدة «(وسلّم) مفتاحه للصقيع» دليلٌ على ما نقول: «مقلقٌ وجه أمي/ ويشهد هذا النبيذْ/ ويشهد غيمُ الرصاص على النخل والأمةُ الناضبةْ/ (…) أيا أميَ الأرضَ/ ردي عليّ لحاف المطرْ…».»ص382-383»
في شعره احتفاءٌ بالرموز دون تكلّفٍ أو إسقاطٍ أو اعتساف. يتخلّق الرمز في كون النصِّ مستلهماً للوجود الجديد، وجوده داخل النصِّ لغوياً في حركةٍ من النبذ والجذب عصيّةٍ آسرةٍ تجعله ينهض بمجموعةٍ من الوظائف أهمّها: الوظائف الجمالية والإيحائية والمعرفية والثقافية. سواءٌ كانت هذه الرموز أشخاصاً تاريخيين أو متخيَّلين، معاصرين أو قدامى، مفكرين أو فنانين أو سياسيين، مشاهير أو نكراتٍ. يحشدهم الشاعر في نصوصه ويعيد إنتاجهم أو تشكيل بعض ملامحهم. وقد ينتج الرمز دون سابق وجودٍ ليسمو به وينصّبه بين الرموز المعترف بها (بعض النساء مثلاً) وهي الآلية التي قد تنطبق على فكرةٍ أو حالةٍ عندما يتسامى بالجزئيِّ، بالعارض، بالذاتيِّ، إلى مرتبة الكلّيِّ والجوهري والموضوعيّ والقانون الساري على كل العشاق في كل زمان ومكان: «عندما تعشق امرأةٌ رجلاً/ تهديه تفاحةً من أشجار غوطة دمشق/ وعندما يعشق رجلٌ امرأةً/ يغسل خصلات شعرها بزجاجةٍ من ماءِ نهر بردى».»ص400»
هكذا بنى الشاعر عالمه، كونه الإبداعيَّ حميماً، أليفاً، مدهشاً. من لبِناتِ العامّ المشترك المعهود نجم المتفرِّدُ والخاصُ وكانت الرؤية للشعر، لمفهوم القصيدة، لوظائفها المتصوّرة، للغة، للبلاغة، مبثوثةً في ثنايا النصوص تصريحاً (قصيدة أسئلة) أو تلميحاً في جلِّ القصائد. لقد تنوعت أشكال القصيدة في تجربته بين قصيدة التفعيلة والقصيدة العمودية، التي وإن عبَّرت عن انشدادٍ إلى الذائقة «الكلاسيكية» أو «القديمة» في مستوى الشّكل، فقد توفّرت على روحٍ وثّابةٍ ورؤيةٍ «حداثّيةٍ جليّةٍ مردّها الاقتناع، الحاصل اليوم عند كثير من شعراء «الحداثة» الرّافعين للوائها المبشّرين «بصدمتها» بأن الشعر هاجسٌ أو نهرٌ دافقٌ لا يستطيع الشاعر أن يغيّر مجراه الذي يقترحه هو، أي أنه يستنُّ لنفسه شكلاً ليس أصلح منه له، فيرد مرةً في شكل قصيدةٍ النثر ويأتي مرةٌ أخرى على التفعيلة وينثال أحياناً في قصيدةٍ عمودية لا تكلُّف فيها، وما «الحداثة» إلا رؤيةٌ وروحٌ وتلاوين من الإجراء في اللغة.
لقد برزت في قصائد توفيق أحمد العمودية بعض عقيدته أو فهمهِ للكتابة الشعرية: «أنا لا أريد على البلاغة قَيِّماً/ فالشعرُ لا يعنيه شكلُ القيّم/ إنّا نريد قصيدةً لم نَكْتَشِفْ/ بحراً لها ووليدةً لم تُفْطَمِ/ الشعرُ خارطةُ الجمال وكيفما/ صحَّتْ لك الأمداء فيه فحوّمِ/ جاوزْ إذا كان التجاوزُ مبدِعاً/ هل غادر الشعراء من متردَّم/».»ص362»
وقد اصطلح النقاد القدامى على ذلك بـ»الشعر على الشعر»، وهو بمثابة التشريع لإنتاج الشاعر واختياراته أو انزياحاته أو ارتداداته. الأكيد أن الشاعر اختار القصائد العمودية هنيهات التغني خاصةً، التغنّي بالقيم، التغنّي بالأماكن، التغنّي ببعض الرموز والشخصيات، التغنّي بالمرأة. والغريب أن العودة إلى القديم شكلاً أو تراثاً أو قيماً، في ثقافات الأمم جميعاً، تقريباً، لا يكون إلا في الأوقات العصيبة، أوقات التأزم التي تُحِسُّ فيها ثقافة ما بالخطر يتهددها في وجودها. ولا شك أن الثقافة العربية تعيش اليوم هذا الخطر المحدق. ناسب الشكل الحالة وساهم في رفع درجة التأثر والتأثير في قصيدة (نبع السن) مثلاً: «يا سنُّ أَطفئْ لهيباً لستُ أعرفُ كَمْ/ من ألفِ عامٍ هنا في صدريَ اسْتَعَرا/ يا سنُّ تَكْبرُ في أعماقنا غُصصٌ/ فَقُصَّ لي بهدوءِ الحاِلمِ السيرا» ص354-355. أو حواره مع المعري في قصيدة (قمر المعرة): «قلبي الكفيفُ وأنتَ أنتَ المبصرُ/ لِمَ لا أرى والكونُ حولي مُقْمرُ؟/ ذنبي كذنبكَ أننا لا ننتمي/ إلا إلى الأسمى به نتجذَّرُ/ هذا زمانُ الشامتينَ ببعضهم/ لا قمحَ في كيسِ المحبةِ يُبذرُ/ «.»ص347-349» أو في قصيدة (على ذراها أصلي، إلى اللاذقية):
«لّلاذقيةِ سِرْ بي إنني عَجِلٌ/ مَنْ رامَ أمراً ثميناً رامَهُ عجلا/ خذني إليها.. خذوا قلبي وأمتعتي/ فهل رأيتم غريقاً يشتكي بَللا».»ص339-341»
وكذلك في قصيدة (رسالة إلى امرأة جميلة):
على حجارتها السوداء أَنْزلني/ وجْدٌ فَأَنْزَلْتُها الأجفانَ والهُدُبا/ حمصُ التي أَرَّخَتْ عُمْرَ القصيدةِ بي/ أَضمُّها: أترامى فوقها سُحبا/ يا حمصُ إني محبٌّ لا حبيبةَ لي/ إلاكِ فلتمنحي محبوبَكِ النسبا».»ص342-343»
وعلى إيماننا بكثير من مقولات «الحداثة» والحداثة في الأدب بالخصوص، وعلى انتصارنا لها، نجد في هذه النماذج من القصائد التماماً على الذات، تماماً «كالحلزون» أو القنفذ، تحصيناً لها، شداً من أزرها، حرصاً عليها. كما نجد جمالية ما وبناء محكماً قد لا يستسغيه الكثير من غُلاة «الحداثة» وإن تأثروا معه أو فعلوا مثله.
هكذا نتبين أن الرجل لا يُخضعُ الشِّعرَ إلى معياري «القدامة» أو «الحداثة» إلا بمقدار نجاح النص في أن يؤدي «الحالة» التعبيرية والإيحائية وينهض بوظيفة «التنفيس» ويحدث في نفس الباث أولاً ولدى المتلقي ثانياً حالةً انفعاليةً ما، مهما كان مصدرها أو تصنيفها. هو ذا الفن، في اعتقادي الآن، في حاجٍة إلى متلقيه ولن يكون إلا إنساناً، هو بدوره، لن يحقق إنسانيته إلا بالفن، لأنه مشطور بالإمتاع والعرفان ما دام نشاطاً قائماً على التخييل والحلم ومادام نشطاً مشدوداً إلى إحداثيات التاريخ ومآزقه، مدقوقاً في التربة التي أثبتته وفي رحم المجتمع الذي تخلق فيه، مطوقاً بإكراهات الواقع حيناً، تائقاً إلى عمق الإنسان وجوهره أحياناً. إنه النص الجامع، النص العابر للتاريخ «أوليس الوجود» الواقع «مجازاً نابضا»ً، على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي (بول ريكور)، استعارة كبرى مستهلكة، استقرت لها لغتها، ولها من ثم جهازها التواصلي العلامي؟ وما الفن والشعر والإبداع عامة إلا استعارة بديل تعتمد نظاماً خاصاً، منطقاً من التمثيل والتصوير والإحالات والنقل، تمتح الاستعارة الأولى بعض لبناتها التكوينية لكنها تتجاوزها. وهي بدورها لا تقبل السكون والتطابق في كل تمظهراتها، أي في النصوص التي تنتجها والأعمال الإبداعية التي تتشكل ضمنها، وإنما تستن جهازاً استعارياً مفتوح المدى على الممكن وعلى ما لا يتصور أنه ممكن!
لقد تركت النفس على سجيتها وأنا أتفرس في هذه المدونة الشعرية، أنصت إلى نبضها، أحاور بعض أصواتها، أجد بعض حالاتي، بعض غبطتي وحبوري، بعض آلامي وبعض رؤاي، وبعض ما ليس تجرؤ أن تتحدث عنه دموعي، بعضاً من نفسي ولفحات من نفسي الجياش!
كانت المجموعة الأخيرة في هذه الأعمال الشعرية: (حرير للفضاء العاري) مسراي وملاذي، طافحة بشعرية عالية متسمة بعمق لافت للانتباه ربما لأن نصوصها ومضات قصيرة توفرت على تكثيف كبير مما زاد في طاقتها على الإيحاء والتلميح. ربما كان ذلك طبيعياً باعتبارها آخر ما أصدر الشاعر، وهي دليل على تطور تجربته وسيرورة فعل الكتابة لديه ونضجه، تتكثف تتكثف، حتى تغدو صلاة وعبارة صوفية، استعارة كبرى:
«املأْ– كأسَكَ يا ربي من خمر دعائي/ أنتَ نديمي كلَّ ثواني العمرِ/ وحاناتِ الأرقِ الليليّْ/ هذي العُشبةُ تُدنيني منكَ كثيراً فأصلّي/ أدعو لك لا تدعُ عليّْ/ من أيةِ ريحٍ جئتَ لتُوقظَ جمرةَ هذا العشبِ الطالعِ في جنبيّْ/».»ص386-387»
إنه الشاعر يتلو مع الصلاة البوذية القديمة:
«ها قد لقيتُ ما هو عصيٌّ عن اللقيا، ها قد سمعتُ ما هو عصيٌّ عن السماع، ينخرط في الشعر، ويهمسُ، كما أسلافهُ المتصّوفة: «أبحث عن نفسي سقطت منّي في الظلمة حيث تراني».
لكن هيهات هيهات.. كلما توهم أنه أدرك الجوهر واقتنص الحالة في قصيدة، إلا وانفلتت إلى قصيدة أخرى. إنه قدر الشعر وقانونه، كل قصيدة كشف، لكنها خميرة لقصيدةٍ أخرى، لكشفٍ آخرَ أو تجلًّ مختلف!
*حاتم الفطناسي: ناقد و أستاذ جامعي تونسي.
التاريخ: الثلاثاء17-11-2020
رقم العدد :2021