الملحق الثقافي:
يقول الشاعر والروائي والفيلسوف الاسباني «ميغيل دي أونامونو» في خطابٍ ألقاه إثر الحرب الأهلية الاسبانية، وأدان فيه المتمردين وهمجيتهم الدموية: «تعرفونني جيداً، وتعرفون أنني غير قادر على الصمت. كنت قد أعلنتُ أنني لا أريد التكلّم لأنني أعرف نفسي، ولكنني سُحبت من لساني وصار من واجبي أن أتكلم، لابدَّ من الإقناع قبل كلِّ شيء، ولا يمكن للحقد الذي لا يترك مجالاً للرحمة أن يقنع أحداً. الحقد الناقم على الفكر، وهو فكر ناقد، ومفاضل، ومفتش، ولكنه ليس محكمة تفتيش..
في هذه اللحظات الحرجة، عليَّ أن أتَّبع الجنود. إنهم وحدهم من سيعيدون إلينا النظام والانضباط، ويعرفون كيف يفرضونهما..»
كلماتٌ، هي بعض ما اخترناه من الخطاب الذي أورده «أونامونو» في مقدمة كتابه «حياة دون كيخوته وسانتشو». حياة المغامر المثالي الذي سعى لتقويم اعوجاجِ العالم، وجعله أكثر عدلاً وحباً وإنسانية. «كيخوته» الذي وجد خلاصه الذاتي فيه، بل خلاص وطنه الذي كان ممزقاً ويحتضر، في ظلِّ حروبٍ عدة كان أدماها الحرب الأهلية الاسبانية.
هي أيضاً، فلسفته التي هدف منها، محاكاة عقل القارئ وتفكيره الإنساني، بعيداً عن الأحاسيس والعواطف التي تقوده إلى عالمٍ يفضله ويتخيّله، هرباً من العالم الذي يشعر فيه بأن روحه، تتمزق ألماً سببه الحياة وواقعها المأساوي.
«أيها القارئ، على الرغم من أنني لا أعرفك، إلا أنني أحبك إلى حدّ أنني لو استطعت الإمساك بك بين يديّ، سأفتح صدرك وأحدث في لبّ قلبك الداخلي جرحاً أضع لك فيه خلَّاً وملحاً، كي تتمكن من الراحة أبداً وتعيش في قلقٍ دائم وفي لهفةٍ لا تنتهي، وإذا كنت لم أتمكن من إقلاقك من خلال هذا «الكيخوته» الخاص بي، فصدقني أن السبب في ذلك هو غبائي، ولأن هذا الورق الميت الذي أكتب عليه، لا يصيح ولا يتنهد ولا يبكي، ولأن اللغة التي يمكن أن نتفاهم بها أنا وأنت، لم تُخترع بعد..».
هذا ما أراد «أونامونو» إيصاله للقارئ عبر كتابٍ سعى فيه لتحرير الفارس «دون كيخوته» من عوالمه التخيلية الإبداعية، وإعادته إلى عوالمه الواقعية.. ذلك أن الحروب والاضطرابات العديدة التي حصلت في أواخر القرن التاسع عشر، وألحقت بإسبانيا هزائم متتالية انتهت بالحرب الأهلية وصعود الفاشية. هذه الحروب والهزائم، دفعته للبحث عن كلِّ ما يستعيد به معنى و»جوهر الروح» التي فقدتها بلاده، ولاسيما الفرسان المقاومون والمناضلون، من أمثال «كيخوته» الذي لم يره كما «سرفانتس» بشكلٍّ تخيّلي، وإنما رآه فارساً جوالاً شجاعاً، يسعى بجنونٍ لنشر العدل والخير والحب في العالم الذي رفض فيه الظلم والحقد الدموي..
هذا مارآه وتناوله في كتاب يحكي، عن شخصيتين هما من أشهر وأعظم ما أبدعه «سرفانتس» الذي جعل من «كيخوته» رمزاً للمثالية والخيال والروحانية، ومن تابعه «سانتشو» رمزاً للواقعية والمادية.
«لم يكن إيمان سانتشو إيماناً ميتاً، ولا مخادعاً كضروب الإيمان التي تستند إلى الجهل.. كان إيماناً حقيقياً وحيَّاً. إيمانا يتغذّى على الشك، لأن من يشكّون هم وحدهم من يؤمنون حقاً، ومن الشكوك التي هي قوته، يتغذى ثانية بعد ثانية، مثلما تتغذى الحياة الحقيقية من الموت لتتجدد وتكون خلقاً مستمراً، لأن حياة لا موت فيها، هي موت دائم»..
لاشكَّ أنهما شخصيّتان تكمل كلّ واحدة منهما الأخرى، ولا تتعارضان لأنهما يمثلان جانبي الكائن البشري. الفارس تحوّل من بطل متخيّل إلى كئيبٍ واقعي، والتابع اقتنع بوجود مثلٍ عليا تحتاج إلى من يسعى إليها، سعي «كيخوته» الفارس اللاواقعي.
حتماً، اهتمام فيلسوف كـ «أونامونو» بشخصيات «سرفانتس» لم يأت محض صدفة، وإنما بعد العديد من النتاجات السابقة التي كان أغلبها مقالات.. مقالات منها «حول قراءة كيخوته وتفسيره» و«الموت لدون كيخوته» و«المزيد حول دون كيخوته» و»الشعور المأساوي بالحياة».
بيدَ أن ما أراده من هذا الاهتمام، عدم قراءة «سرفانتس» بالطرق التي كان قد قُرىء فيها، وسواء التقليدية أو حتى الاصلاحية. ذلك أنه أعجب بشخصية «كيخوته» إلى الحدّ الذي لعب فيه دوره الجنوني -البطولي، الساعي لمواجهة الظلم بقيم الشجاعة والمحبة والإنسانية..
فعل ذلك، بسبب تأثّره بهذه الشخصية التي ألهمته، ما يؤكده اعترافه الذي اقتبسه من مقالٍ كان قد كتبه، وأورده في روايته:
«ماذا يهمني ما أراد أو لم يرد «سرفانتس» وصفه، أو ما قد وصفه فعلاً؟.. فما هو حي، هو ما أكتشفه أنا، وسواء أورده «سرفانتس» أم لا.. ما هو حيّ، هو ما أضعه وأفرضه وأخفيه..
لقد ولد «سرفانتس» ليروي سيرة حياة «دون كيخوته وسانتشو» وولدت أنا لشرحها والتعليق عليها.. لا يستطيع رواية حياتك وشرحها يا سيدي كيخوته، إلا من به مسٌّ من جنونك نفسه..».
كل ذلك، يدفعنا إلى سؤالّ ضروري: ماذا أراد «أونامونو» من هذا كلّه، ولماذا يتدخل في نصوص «سرفانتس» تحليلاً وتحويراً؟!!.
سؤالٌ، كان هو ذاته قد وجّهه لنفسه، ليكون جوابه كما نورده، ونختم به ويدلّ على إغراقه بفلسفته:
«هل هنالك فلسفة إسبانية يا سيدي «دون كيخوته»؟.. أجل إنها فلسفتك.. فلسفة عدم الموت. فلسفة الإيمان. فلسفة خلق الحقيقة، وهذه الفلسفة لا يمكن تعليمها في الجامعات، ولا عرضها من خلال المنطق الاستقرائي أو الاستنتاجي، ولا تُستخرج بالقياس، ولا من المختبرات، وإنما تنبع من القلب حيث عدم الموت.. إنها فلسفة الخلود.. هي هاجسي، ولأن الخلود يحتاج إلى إيمان، فأنا أؤمن بالنفس وبالقدرة على تجسيد الأحلام من خلال خلق الحقائق».
باختصار.. هو يسعى للبحث عن الأبعاد الفلسفية التي لم ينتبه «سرفانتس» لوجودها لدى فارسه وتابعه.. الأبعاد التي أعاد تدوينها، جاعلاً من ذاته فارساً في زمنٍ يحتاج لمن يقارعه لينقذ واقعه.
التاريخ: الثلاثاء8-12-2020
رقم العدد :1023