حربُ المفاهيم المتوحشة في انقضاضها على العقول

الملحق الثقافي:د: مجدي صالح :

جميعنا نعيش أصعب مرحلة في التاريخ. مرحلة التعمّق في تشويه المفاهيم التي مرت على مراحلٍ، حتى وصلت إلى حرب المفاهيم وتمزيق المجتمعات وفرض واقعٍ جديد يصعب إدارته وفق الرؤى التقليدية. هذا الواقع هو فوضى العقول، وسقوط النخب، والأخلاق، وتضارب السلوك ليغدو السلوك الجمعي غير سويٍّ، وكلٌ له اتجاهه المخالف للمنطقِ بعدائيةٍ مطلقة.
تأخرنا كثيراً في دراسة حرب المفاهيم. هذا اعترافٌ منا. لم نكن نتوقع أن يأتي زمن يمزِّق المرء فيه نفسه بسبب أفكارٍ هدامة ظلامية، ويعمل بكل إخلاصٍ لتمزيق من حوله، ولنشرِ عدوى تلوِّثه العقلي في محيطه. كنا نؤمن بعصرٍ رقميٍّ تحكمه ضوابط أخلاقية، وأفكار إنسانية سويَّة بعيداً عن لؤم الأشرار وتوحش الإعلام، وطمع الأقلام السامة، وجوع الألسنة الإلكترونية.
إن هذا العالم الذي نعتقد أنه قرية تدار وفق قوانينٍ، يحتاج لسنِّ قوانين عصرية تنظم تدفُّق المعلومات، وتجرِّم تشويه المفاهيم بكل تشعباتها، وتحاكمُ روادها، فالعالم ليس بخير وهو يعيش في فوضى معلوماتية، حيث يعيش على صفيح ساخن مرشَّح للانفجار الذي لابدَّ أن يصيب كل إنسان بشظية، فالحرب التقليدية في رمقها الأخير، لأن حرب المفاهيم ستحلُّ محلَّها لأنها نجحت في مراحل التجارب العملياتية، وأعطت نتائج دموية لم يتوقف نزيفها إلى اليوم في أوطاننا الجريحة.
لقد كان للإعلام العربي الفضائي، دورٌ لا محدود في التمهيد لعملية تشويه مفاهيم الشعوب العربية، وتلويث العقل الجمعي منذ الانطلاقة الأولى لهذه القنوات الإعلامية، ونتج عن ذلك خلق رهط من المثقفين المزورين، الذين عملوا في بثٍّ مباشر وفق أوامر المشغِّل، مقابل امتيازاتٍ مالية ورفاهية سفر خمسة نجوم، بل تمادت تلك القنوات الفضائية حيث جعلت من المثقف المزور قدوة عربية توجه الجماهير نحو الظلامية.
في بداية ظهور القنوات الإخبارية بشكل خاص، كان العقل الجمعي يتحمل تلقي سيلٍ من المعلومات كبداية عصر معلوماتي جديد، تم ضخ سيولٍ من المعلومات المزيفة عكست المفاهيم وشوهتها على مراحلٍ مخطط لها بعناية، وقد صنَّعت شخصيات إعلامية توجيهية، وشخصيات دينية مضلِّلة يُسمع لها، وأضحت قدوة يحتذى بها ويُذبح منتقدها.
في السنوات الأخيرة، دخلنا مرحلة جديدة من تشويه المفاهيم، ويمكن تسميتها مرحلة “الانحطاط وإللا مفاهيم” حيث ظهر ما نسميه بإعلامِ الناشط الذاتي، الذي يجمع حوله فئة جمعية تمَّ تلويث عقلها مسبقاً، وصار الفرد من هؤلاء الناشطين لديه قدرة جمع عشرات الآلاف من المتابعين المغيبين عن الوعي الفكري في قناة على اليوتيوب، حيث يتمُّ تناقل أقواله الفارغة من أي مضمونٍ ومحتوى، عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتراسل كالواتس آب.
من كان يتوقع يوماً أنَّ لتشويهِ المفاهيم تطورات وإفرازات؟!.. وأن مشوِّه المفاهيم، عبارة عن آلةِ تفريخٍ لناشطين تلوّثت عقولهم وتشوّهت لديهم القيم مُسبقاً؟! هؤلاء الآن يتحكمون بتيارات جماهيرية، كلٌ حسب موضوع، ولكلٍّ منهم نافذة إعلامية يتواصل عبرها مع متابعين، يفوق عددهم عدد متابعي أكبر وأشهر قناة تلفزيونية، بكلِّ إمكانياتها المالية والبشرية الضخمة.
كنا نرى إعلاميٌّ بلا ضمير، يتلو خبراً مفبركاً وهو يعلم ذلك مقابل المال أو خدمة لمعتقدٍ فاسد أيا كان، وكنا نرى كيف كان يغيّر ملامح وجهه متظاهراً بالتأثُّر، وليس هذا التأثر إلا من حيله التمثيلية.. كنا نرى أيضاً، مواهبه في تغيير نبرات الصوت ما بين تراقص الكلمات وصدى المضخمات، وأحياناً يسقط دمعةً حمضية، ونستغرب كيف طاوعته نفسه أن يقول كلمات تسفك دماء المشاهدين والمستمعين من بني جلدته.
اليوم نرى قيمة هؤلاء في انحسارٍ واضحٍ، مقابل بروز الناشطين الملوثين العشوائيين في وسائل التواصل. هنا يبرز السؤال الأهم: من المسؤول عن فساد المفاهيم وتفخيخ العقول؟! بل كيف أصبحت الخيانة ولاء للوطن، والفوضى ثورة، والعشوائية أسلوب حياة؟! وكيف تحوّل تشويه المفاهيم وتزوير التاريخ وقلب الحقائق، إلى مجرّد رأيٍ، ورأي آخر، وحرية شخصية؟!.
في حقيقة البيان، تشويه المفاهيم سلاح بديلٌ عن القطعات العسكرية، وأهم وسيلة في الحرب غير الأخلاقية. هي حرب تدار في العقول. وكما في كل حرب هناك هجوم وخصوم ويقابلهما دفاع، وهناك ضحايا ومنتصر ومهزوم، والدفاع ليس بمستحيل، بل هو واجب يُكلّل بالنصر المبين الذي يمر عبر تحصين العقول من الأفكار الهدامة الظلامية، ومسح التلوث العقلي الذي أصاب البعض. وكما هي أدوات العدو في ذلك الشيء غير الأخلاقي، يكون الدفاع بذات الشيء بصورة أخلاقية. العدو سخر العقل في تدميرنا، ونحن علينا فعلياً واجب تسخير عقولنا لتحصين عقول أبنائنا والدفاع عن وجودنا. التحصين الذي لا يكون إلا بتفعيل المنطق، ومنطقة الأشياء وتدريب أبنائنا الطلاب على التفكير السليم، وعلى ثقافة السؤال والقياس والتحليل المنطقي.
علينا فتح قلوبنا وعقولنا للفلسفة وعلم الاجتماع، ودعم المتمرِّسين، والباحثين لدراسة الظواهر الاجتماعية الدخيلة، والرد على كل أنواع المفاهيم المشوَّهة، والعمل على استعادة عقول تم سلبها وتجديد المفاهيم الصحيحة، وتحديث المعاني وليس بالعناوين فحسب، بل بتجديد الخطاب الثقافي بما يتناسب مع طبيعة المرحلة، فلاشكّ أن الخير هو من سينتصر في النهاية، ومهما تعاظمت الشرور وتضاعفت أعداد الأشرار، علينا وكي لا يتأخر هذا الانتصار، أن نسرع في إيجاد آلياتِ عملٍ تساعدنا على تحصين العقول وإيقاف تفسّخها.
 باحث وأديب يمني

التاريخ: الثلاثاء22-12-2020

رقم العدد :1025

 

آخر الأخبار
تعنيف طفل على يد قريب في حماة يفتح ملف العنف الأسري الداخلية السورية تُنظّم زيارات للموقوفين وتُخفف معاناة الأسر مسؤولان أوروبيان: سوريا تسير نحو مستقبل مشرق وتستحق الدعم الرئيس الشرع يكسر "الصور النمطية" ويعيد صياغة دور المرأة هولندا.. جدل سياسي حول عودة اللاجئين السوريين في ذكرى الرحيل .. "عبد الباسط الساروت" صوت الثورة وروحها الخالدة قوات الاحتلال الإسرائيلي تواصل خرقها اتفاق فصل القوات 1974 "رحمة بلا حدود " توزع لحوم الأضاحي على جرحى الثورة بدرعا خريطة طريق تركية  لتعزيز العلاقات الاقتصادية مع سوريا قاصِرون خلف دخان الأراكيل.. كيف دمّر نظام الأسد جيلاً كاملاً ..؟ أطفال بلا أثر.. وول ستريت جورنال تكشف خيوط خطف الآلاف في سوريا الأضحية... شعيرة تعبّدية ورسالة تكافل اجتماعي العيد في سوريا... طقوس ثابتة في وجه التحديات زيادة حوادث السير يُحرك الجهات الأمنية.. دعوات للتشدد وتوعية مجتمعية شاملة مبادرة ترفيهية لرسم البسمة على وجوه نحو 2000 طفل يتيم ذكريات العيد الجميلة في ريف صافيتا تعرض عمال اتصالات طرطوس لحادث انزلاق التربة أثناء عملهم مكافحة زهرة النيل في حماة سوريا والسعودية نحو شراكة اقتصادية أوسع  بمرحلة إعادة الإعمار ماذا يعني" فتح حساب مراسلة "في قطر؟