الملحق الثقافي – عواطف الزين :
سؤالٌ، لا بدّ من طرحه ومناقشته، ومحاولة الردِّ عليه من باب التفاعل مع الواقع والحرص على الثقافة بكلّ مكوناتها ومجالاتها وأنشطتها، والخوف من الآتي، فهذا السؤال هو الأهم الآن في حياتنا الثقافية، نظراً لما شهدناه طوال الأعوام الماضية وما زلنا نشهده، من أحداثٍ وحروبٍ وأزماتٍ تزداد شراسة وتعقيداً في بقاع عالمنا العربي والعالم، مما يؤدي الى انحسار الاهتمام بالثقافة وتحويل الأنظار عنها، إلى ميادينٍ أخرى مرتبطة بحياة الإنسان ووجوده على هذه الأرض، وفي هذا العالم .
بدايةً، أرى أن الإنسان هو “مخلوق ثقافي” على أساس أن الثقافة بمفهومها الإنساني موجودة بالفطرة، وهي الرغبة في المعرفة والتعلم والتجريب والابتكار والخلق والإبداع، والثقافة هي وليدة بيئةٍ يشكل الانسان ركناً أساسياً فيها، فهو الذي “يصنعها” ويتفاعل معها، وإذا سلمنا جدلاً بهذا الأمر، أجد أن البيئة نفسها، تعاني من أمراض كثيرة، وتحتاج إلى علاجٍ شاملٍ وجذري وكامل، يستأصل أوهامنا، ويزرع مكانها أحلامنا، ليس فقط من أجل أن نحلم ولكن لنحقق هذه الأحلام، وبالتالي لنوجد هذا الإنسان .
إن الثقافة وتوابعها، وبكل ميادينها ووسائلها وأنشطتها وإبداعاتها، تحتاج بالدرجة الأولى إلى مناخٍ صحي لتنمو وتزدهر وتتعمق وتتأصل، وهذا هو الدور المطلوب منا جميعاً. لكن، هل نقوم نحن بهذا الدور كما ينبغي؟.. هل استطعنا أن نجعل من الثقافة حاجة يومية لنا؟.. بصورة أكثر دقة، هل استطعنا أن نجعلها خبزنا اليومي؟..
هناك الكثير من الأسئلة التي تتناول واقعنا الثقافي وظروفه وهمومه على مختلف الصعد، ولا توجد إجابات كاملة ووافية على هذه الأسئلة وغيرها، ونظلُّ ندور في فلك الخلافات والصراعات والمنافسات، مما ينعكس بصورة سلبية على هذا الواقع، ويجعل الرؤية غير واضحة تجاه حياتنا الثقافية وما يمكن أن يكملها أو يجملها، ويجعل لها طعماً ولوناً وشكلاً مغايراً.
من ضمن تلك الأسئلة أيضاً: هل تقوم المؤسسات التي تُعنى بالثقافة بدورها الذي وجدت من أجله؟.. وهل استطاعت فعالياتها الثقافية أن تؤدي وظيفتها على أكمل وجه، بحيث تصل إلى كلِّ الناس في مناطقهم البعيدة أو القريبة، كما ينبغي لهذه المادة الثقافية أن تقدّم في الشكل والمضمون؟.. وهل نجحت في جعل الثقافة مادة مقروءة، في ظلِّ انحسار المدِّ الثقافي بمفاهيمه الوطنية والقومية والإنسانية؟.. وهل يمكن لهذا العالم الشاسع المترامي الأطراف، والمشعّ بآلاف النجوم من كل شكلٍ ولونٍ، وفي كلِّ مجالات الإبداع الإنساني “رواية وقصة وقصيدة ولوحة تشكيلية ومقطوعة موسيقية. نصٌّ مسرحي أو سينمائي أو تليفزيوني أو إذاعي”. هل يمكن لهذا الفضاء الكوني، أن ينحسر ويتلاشى وتخفت نجومه ليعمّ الظلام، ظلام العقل والقلب؟. وهل يستطيع المبدع أيَّاً كان نوع إبداعه، أن يكف عن القيام بدوره الأساسي الذي يشكل معنى وجوده، وينزوي في زوايا النسيان؟..
لاشكَّ أن الإجابة على تلك الأسئلة مجتمعة، هي مهمة صعبة، ولكن لا بدَّ أولاً، من معرفة وتحديد المشكلات والعوائق التي تغلِّف مجتمعاتنا الثقافية العربية، وفي مقدمتها “نبرة الأنا” أو “أنا ومن بعدي الطوفان”، علماً بأنَّ أي كاتب أو مثقف أو مبدع، هو نتاج لآخرين سبقونا في هذا العالم، فالأجيال تتعلم من بعضها لتتواصل وتستمر، ولكن يبدو أن العالم الثقافي تحديداً، على اتساعه، و”بوجود شبكات التواصل على أنواعها” أصبح مساحة ضيقة لا تتَّسع الا للبعض على حساب الآخر، وخصوصاً أولئك الذين ارتضوا القيام بدور المحاربين، واستخدموا أسلحتهم في مواجهة كل موهبة يمكن أن تضيف الجديد والمهم.
للأسف، هناك مافيات ثقافية في عالمنا العربي، ومهمتها محاصرة ومحاربة وتحطيم كل محاولة للخروج من “كليشيهات” الماضي التي لا تزال تتحكم في الحاضر وتسقط عليه مفاهيمها الخاطئة “طبعاً، انا لا أعمم” فقط أتحدث عن الظواهر السلبية “لان مهمة المثقف في رأيي، القيام بدوره في التنوير والتثقيف والتوجيه والرعاية، وليس محاربة الآخر خارج نطاق “المنافسة الحضارية” أو الانزواء في برجٍ عاجي، يبتعد به عن الناس فقط لأنه مثقف، علماً بأن الثقافة هي تفاعل إنساني بين البشر، وتبادل معارف وأفكار وتجارب ومعلومات، وتوسيع لدائرة الوعي على حساب الجهل والتخلف والأمية والتعصب.
من هنا، يجب ألا يختلف اثنان على ضرورة أن يكون الكاتب، هو الإنسان الذي يكتب. بمعنى، ألا يعاني انفصاماً حاداً في الشخصية. ذلك أننا عندما نقرأ لأحدهم، تدهشنا أفكاره، وعندما نلتقي به تصدمنا حقيقته.
هذه الحالات الشاذة ثقافياً وإنسانياً واجتماعياً، تعجُّ بها الساحات والمجتمعات الثقافية، وخصوصاً بعد طغيان الانترنت الذي خلق طبقة جديدة من مدَّعي الثقافة والإبداع، وتلك معضلة أخرى تحتاج إلى حلٍّ .
على الجانب الآخر، تبرز مشاكل أخرى لها علاقة بالمعارك الأدبية، وهي بعيدة كل البعد عن الأدب، فالاختلاف في الرأي لا يفسد للودِّ قضية، ولكن الخلاف في الرأي في أيامنا هذه، يفسد كل القضايا، وما نشهده على أرض الواقع من إرهابٍ، هو اختلاف في الراي والرؤية أولاً وأخيراً، وحين يدخل التعصب وعدم قبول الآخر من الباب، يخرج الأدب من الشباك، وتضيع المقاييس.
إن أي مجتمع يسعى لأن يكون مجتمعاً مثقفاً، عليه أن يحمي هذه التسمية المُكلفة بكثيرٍ من الحكمة وقليل من المشكلات. عليه أن يعتبر الثقافة سلوكاً حضارياً قبل أن يعتبرها مادة معرفية أساسية، وإذا توفَّر لنا هذا المعنى، سوف تصبح الثقافة هدفاً لكلّ الناس، ومن الخطأ اعتبار الإنسان مثقفاً ما لم ينظر إلى الثقافة من هذا المنظار .
هذا ينطبق على الوسائل المعرفية والأساليب الثقافية كافة، في ظلِّ ضياع المقاييس السليمة للإنسان المثقف، وبشكلٍ خاص في أيامنا هذه. هناك مؤسسات ثقافية رسمية لها دورها، وهناك مؤسسات أهلية مدنية لها الدور الأكبر في خلق مجتمع سليم، تعنيه الثقافة أكثر بكثير مما تعنيه المسائل الحياتية الأخرى، ومن بين أهم الشروط التي يمكن من خلالها تحقيق ما نحلم به على صعيد مجتمعاتنا، هو جعل الثقافة مادة تربوية في مناهجنا المدرسية، وفي كل المراحل، فإذا اعتاد الطفل على قراءة قصة للأطفال في سنواته الابتدائية، فإنه سيصبح أكثر شغفاً في المرحلة الاعدادية والثانوية والجامعية وما بعدها وطوال حياته. هذه مسؤولية مشتركة بين الدولة والمجتمع، فالمناهج هي الأساس الأول الذي يعوَّل عليه في بناء شخصية الفرد في مجتمعنا، وكذلك الأسرة التي تتقاسم المسؤولية، وعليها القيام بمهمتها على أكمل وجه، فالبداية من هنا لجعل الثقافة عالماَ بلا نهاية.
نعم.. الثقافة والفنون والآداب إلى أين؟.. سؤالٌ لا إجابة توازيه سوى: “إلى حيث نأخذها، فنحن من يصنع الثقافات والفنون والآداب، وهي معنا أينما وجدنا وأينما سنكون.
إعلامية وكاتبة وشاعرة لبنانية
29-12-2020
رقم العدد 1026