الثورة أون لاين – عبد الحليم سعود
ربما ليس من الموضوعية والمنطق في شيء التعويل على تغيّر سياسة الولايات المتحدة الأميركية الخارجية إيجاباً بمجرد قدوم إدارة جديدة ، إلى الدرجة التي تحدث فيها قطيعة واضحة مع النزعة العدوانية والسلوك الامبريالي اللذين تنتهجهما للهيمنة على العالم ونهب ثروات شعوبه لصالح نخبتها أو زمرتها الحاكمة ، فهذه النزعة وهذا السلوك متجذران في العقلية المؤسساتية الأميركية “الدولة العميقة” بحيث لا ينتجان سوى إدارات أميركية “متشابهة” ينصبُّ تفكيرها وجهدها في إطار ذات السياسة التي ترسَّخت على مدى عقود طويلة ، والتي أصبح العالم بأسره يحفظها عن ظهر قلب بعد أن عانى منها الأمرّين .
لكن المنطق يقول إن “العاقل” يتعظ ويستفيد من تجاربه أو من تجارب غيره ، وقد أوحت الأيام الأولى أو اللحظات الأولى التي تلت دخول الرئيس “الديمقراطي” جو بايدن للبيت الأبيض بأن إدارته ستحدث قطيعة مع سياسات “إدارة ترامب” ولاسيما أن مساحة التخريب الذي تسببت به الأخيرة لم تقتصر على خارج أميركا – كما هي العادة – بل نال الأميركيون قسطاً وافراً منها ، وذلك في مناسبتين ، الأولى تتعلق بقضية المواطن الأميركي الأسود الذي قتلته عنصرية الشرطة الأميركية البيضاء وما تلاها من أحداث كشفت وجهاً مظلما للحرية في أميركا ، والثانية تتعلق بهجوم أنصار الرئيس الخاسر دونالد ترامب على مبنى الكابيتول هيل “قلعة الديمقراطية الأميركية المزعومة” احتجاجاً على فوز بايدن ، وما أثاره هذا الحدث من شكوك حول الديمقراطية نفسها في بلاد تشن حروباً حول العالم تحت عنوان نشر مفاهيمها وقيمها وثقافتها وديمقراطيتها ، هذا عدا عن جائحة كورونا التي شكلت القشة التي قصمت ظهر إدارة ترامب وأودت بها بفضيحة .
فالقرارات التي وقعها بايدن بخصوص العودة إلى عدد من الاتفاقيات والمنظمات الدولية كاتفاقية المناخ واتفاقية الشراكة عبر الهادي والأجواء المفتوحة وتجارة الأسلحة ، وإعطاء مؤشرات إلى إمكانية العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران واتفاقية الحد من الأسلحة الاستراتيجية مع روسيا “نيو ستارت” ، والعودة للمساهمة بتمويل المنظمات الدولية التي انسحب منها ترامب كاليونسكو ومجلس حقوق الإنسان ومنظمة الصحة العالمية ، كل هذه القرارات مهدت الطريق نحو عودة أميركا إلى ما قبل حقبة الفوضى الترامبية ، ولكن ثمة أكثر من قضية محورية تضع إدارة بايدن على المحك ، وربما تجيب عن السؤال الكبير الذي لا بد من طرحه هو : هل تتغير أميركا أم تبقى ذاتها رغم تغير الرؤساء..؟! ، فالوجود الأميركي الاحتلالي وغير الشرعي في سورية ، والموقف المتطرف والمتحيز بقوة لصالح الكيان الصهيوني على حساب حقوق الشعب الفلسطيني ، والعداء المستحكم لروسيا والصين وإيران ودول أخرى مثل فنزويلا وكوبا وكوريا الديمقراطية ..الخ، كلها قضايا بحاجة إلى إجراءات ملموسة على الأرض للحكم ما إذا كانت سياسات بايدن ستختلف عن سياسات ترامب ، أم إن الرئيسين هما وجهان لسياسة أميركية واحدة لا تتغير؟!.
العقلانية التي قلما نراها في السياسات الأميركية تستوجب تغيير السياسات التي أثبتت فشلها والاستعاضة عنها بسياسات أكثر جدوى وفاعلية بما يحقق المصلحة الوطنية “البراغماتية السياسية” ، وبحسب العديد من السياسيين الأميركيين الضليعين بقضايا المنطقة ومنهم السفير الأميركي السابق في دمشق روبرت فورد ، وكذلك السفير السابق في لبنان جيفري فيلتمان ، أكدوا فشل السياسة الأميركية في سورية لجهة إخراجها من التحالف مع إيران أو روسيا أو إجبارها على التخلي عن دعم المقاومة ضد الكيان الصهيوني أو ما يسمى “تغيير سلوكها” إزاء العديد من القضايا وخاصة القضية الفلسطينية ، وحتى أكثر المنظرين الأميركيين حول “نجاحات” أميركا في سورية اكتفى بإنجاز وحيد وهو الضغط على الشعب السوري اقتصادياً ومعيشياً لإجباره على التخلي عن دعم مواقف بلده الثابتة تجاه العديد من القضايا الوطنية ، وهذا ما لم يحدث مطلقاً ، أما الإنجازات التي يمكن أن تدَّعيها أميركا وتفاخر بها فهي دعم الإرهاب وزيادة مساحة الدمار والفوضى تحت عنوان “الربيع العربي” في عموم المنطقة ، وسرقة الثروات السورية ، وإجبار عدد من الأنظمة العربية على الدخول في نفق التطبيع مع الكيان الصهيوني ، دون أن يؤدي ذلك لنجاح الخطة أو الصفقة “صفقة القرن” التي استمات ترامب قبل سقوطه في سبيل إنجازها لكنها لم تنجز.
لا شك أن الكرة اليوم هي في ملعب بايدن والأيام القادمة ستكشف ما إذا كان جادا في استعادة “احترام” العالم لأميركا ، أو أنه سيغير وجهها الذي يمقته العالم ، وحبذا لو بحث بايدن عن الإجابة عن السؤال التقليدي الذي يسأله الأميركيون لأنفسهم “لماذا يكرهوننا”