الملحق الثقافي:ثراء الرومي:
طفلي أصبح يعرف الرمز السرِّي لجوالي. أراقبه وإخوته عن كثبٍ، وهم يتسلَّلون الواحد تلو الآخر ظنَّاً منهم أني لا أراهم. كرم يجلس في المنتصف، وأخواه يحيطان به، وفرحة استعراض ما يشاؤون من رسومهم المتحركة لا يضاهيها شيء.
ها قد بدأت عدوى التكنولوجيا تنتقل إليهم، وأنا التي كنت ألوم من حولي، لإمضاء أطفالهم ساعات وساعات، وبين أيديهم هذا الكائن التكنولوجي المدمر. لكن الفارق، أنّي أعطيهم فسحة صغيرة لهذا الفرح الطفولي، ثم أباغتهم وكأنني اكتشفت الأمر لتوّي، فيخبئ كرم يديه في حركة تشي بأنه هو زعيم عملية السطو المحببة، ويتقافزون جميعاً للحفاظ على غنيمتهم-جوالي.
أعلن بحزم: لديكم ربع ساعة وستعيدونه لي، وتبدأ مفاوضاتهم التي تتَّسم بالعناد، لتنتهي برضوخي لربع ساعة إضافية يفرضونها. أضحك في سري وأنا أراقبهم، ومع انتهاء المهلة أقترح عليهم: «ماذا لو نتعلم الرسم من اليوتيوب؟»، يتحمسون للأمر كثيراً ويبدؤون، وتبدأ معاركهم الصغيرة على إيقاف مقطع الفيديو أو استكماله، وعلى حيازة الألوان التي تبتلع قسماً منها زوايا مجهولة، وينتهي الأمر بهم بالضرب أحياناً كثيرة.
يقتضي الأمر تدخلي. أفكّ النزاع بصعوبة، ثم أستلقي بجانبهم وأغمض عيني لاستدراجهم إلى أسرّتهم، وبالفعل يتوافدون الواحد تلو الآخر ويستسلمون للنوم بسرعة قياسية. ذلك الخدر اللذيذ يثقل أجفاني، فأصدِّق ادِّعائي بالنوم وأغفو بالفعل، لأكتشف ذلك بعد ساعات: «ياه.. لقد سرقني النوم طويلاً».
أرمق الساعة الجدارية والخدر لا يزال يداعب أجفاني، ويغريني بالعودة إلى النوم. خمس دقائق بقيت لمرور الساعة الأولى بعد منتصف الليل، وإلى يميني أرى مجلة «جسور ثقافية» التي تلقيتها منذ أيام كهدية ثمينة بالنسبة لي. تغريني بتصفحها، ليحسم الإغراءان هطول الموت من حولي على هيئة صوت مرعب، يمزِّق أستار سكينة الليل. إنها قذيفة هاون عمياء. يهرع أطفالي مذعورين إلى الغرفة الأخرى الأكثر أماناً وفقاً لتعليماتي، وأجازف بالدخول إلى الغرفة التي سارعت إلى إخلائها، لأستلّ الأغطية وأهرول ذهاباً وإياباً، وهطل القذائفِ المسعورة مستمر. يصرخ أطفالي برعب مع كل قذيفة: «ماما أين أنت».
«أنا بخير ماما، لا تخافوا».
يحتاج أحدهم الدخول إلى الحمام، ومع هاون أخرى يناديني: «مامااااااا». أطمئِنه: «ماما لا تخف».
يصطف أطفالي على السرير الكبير، ويسألونني بلهفة: «ماما، وأنتِ أين ستنامين»؟. أجيبهم: «سأنام معكم». يسأل أحدهم: «لكنك هكذا قريبة من النافذة.. أرد:»ماما من هذه الناحية لا تأتي قذائف».
أحاول امتصاص رعبهم ما استطعت. أبتلع غصَّتي وخيبتي، وأسايرهم إلى أن يخلدوا إلى النوم، أما أنا فيجافيني، والهواجس تلتهم تلك الكرة العصبية المدعوة رأسي، وقد انفردت في مسؤولية قراري بحكم مناوبة زوجي: «ماذا لو كنت مخطئة؟!!.. ماذا لو سقط علينا صاروخ حيث اعتقدت أنه المكان الأكثر أماناً؟!!
أفوض أمري وأمر صغاري إلى من وهبنا أرواحنا، وأبدأ كتابة قصتي التي تعلن بانتهائها ونشرها، إشراقة فجرٍ تُشعرني، بأننا لا زلنا على قيد الصباح.
التاريخ: الثلاثاء16-2-2021
رقم العدد :1033