الملحق الثقافي:الهام سلطان:
أضاءت طريق الأجيال بالعلم والمعرفة، وكانت أيقونة الثقافة والتربية لأجيالٍ وأجيال، ترجمت الكثير من الكتب والقصص والمسرحيات، من الفرنسية الى العربية وبالعكس، وقدمت الكثير من الدراسات حول المرأة والأطفال والشباب، فقد رأت أن الأطفال هم المستقبل، والشباب عماد المجتمع.
إنها الإنسانة والمترجمة والباحثة والأم الفاضلة، الدكتورة “ملكة أبيض”.. من حلب الشهباء كانت خطواتها الأولى، ففيها ولدت لدى أسرة تتألف من عشرة أولاد، ولأبٍ من أصول لبنانية ويعمل في مجال التجارة، وأم سيدة منزل ربَّت أولادها على العلم والمعرفة.
أتمّت دراستها الابتدائية في مدرسة الناصرية، وبعدها انتقلت إلى الثانوية الأولى للبنات، وبقيت فيها حتى حصولها على الثانوية الأولى.
حصلت على منحة دراسة لإتمام الثانوية الثانية في دمشق، ثانوية البنات الوحيدة، وبعدها حصلت على أول بعثة دراسية، فكان أن تابعت تعليمها في بلجيكا – بروكسل، وهناك تخصصت في العلوم التربوية والنفسية.
حكايتها مع الشاعر سليمان العيسى
هي حكايةٌ أشبه بحكايةِ وطنٍ أبجديته الحب والاحترام، وقصة كفاحه إصرارٌ على متابعة طريق العمر إلى ضفاف الألق والإبداع.
بدأت الحكاية، بعد عودتها من بلجيكا إلى حلب، في نهاية السنة الدراسية الثالثة، وتعرّفها على الشاعر الكبير “سليمان العيسى” الذي كان يدرِّس أخواتها اللغة العربية، تزوجا في ١٧ أيلول عام ١٩٥٠ وكتب الشاعر بهذه المناسبة قصيدته “القيدُ الصغير”.
بيدي اخترتهُ قيدي الصغير
من ربيعٍ دائمٍ في القلب
من بردٍ غدير ..
بيدي اخترتهُ هذا النداء
يصلُ الأعماق بالأعماق
يخضرُّ الرجاء..
قيدهُ الحلو تسابيح الوترْ
باقةٌ سمراء من ضوءِ القمرْ
ضحكةٌ تزرعُ في الليلِ السحرْ
هكذا بدأت حياة د. “ملكة ابيض” مع رفيق دربها الشاعر “سليمان العيسى”، وكانا نموذجاً للحبِّ والإبداع والوفاء الذي دلَّت عليه، بقولها في مقدمة كتاب مشترك لهما وعنوانه “رحلة كفاح”:
قدرٌ جمعنا ذات يوم …
ولم نكن ندري أن ذلك سيدوم العمر كلّه…
وهكذا رأيتني أمضي معهُ في نفس الدرب، وأشاطره الكفاح.”
عن هذا الوفاء، يقول أيضاً رفيق دربها، الشاعر “العيسى”:
“مشوار …
اخترناه بملءِ إرادتنا…
وواجهنا فيه قدرنا بحلوهِ ومرّه
قانعين بأننا عشنا الحياة التي اخترناها بأنفسنا
وملأناها بالأحلامِ الجميلة …
نسجنا مثلما شاءَ الهوى أيامنا
وزرعنا خلفَ أسوار الدجى أحلامنا
وجعلنا الحبّ.. قنديل خطانا
وسُرانا
وقنعنا بالحكايات التي يخضّر فيهنَّ السَّمر
وأنَّنا… روَّضنا معاً ليل السَّفر..”.
لا ننسى أيضاً، كلمته الشهيرة عنها، والتي كان يردِّدها دائماً: “أدين بنصف إبداعي لزوجتي الدكتورة ملكة أبيض”.
تجربتها مع الأدب الجزائري الثوري
للدكتورة “أبيض” تجربة غنية مع الأدب الجزائري، في نهاية الخمسينيات وبدايات ستينيات القرن الماضي، حيث عملت على تقريب هذا الأدب الثوري العربي المكتوب بالفرنسية، إلى أبناء الوطن، وقد كتبت في إحدى حواراتها:
“صادف أن زار الشاعر الجزائري “مالك حداد” منزلنا، فشكى غربته اللغوية مع الأطفال، ولأنني أفهم الفرنسية وأتحدثها، اقترحت عليه ترجمة بعض آثاره إلى العربية، وكان يحمل ديوان “الشتاء في خطر”، فدفعه إليّ وقمت بترجمته، وعند عودة الشاعر إلى بلده الجزائر، أهداه “سليمان العيسى” كتاب “صلاة لأرضِ الثورة”، وهو نجاحٌ دفعني لمتابعة العمل، فاتصلت بـ “كاتب ياسين” وحصلت منه على رواية “نجمة” وعلى مجموعة مسرحيات “الجثة المطوقة”، وتابعت في الترجمة واتخذت منحيين، المنحى العلمي والمنحى الأدبي “..
حصلت الـ “ملكة” على بعثة دراسية ثانية، للحصول على الماجستير ضمن اختصاص العلوم التربوية في بيروت، وحاولت بالتعاون مع زوجها التوفيق بين تربية الأولاد ومتابعة دراستها.
توسعت آفاقها وبدأت التحضير للدكتوراه في جامعة ليون الثانية/ المعهد الفرنسي للدراسات العربية، وكان عنوان رسالة الدكتوراه “التربية العربية الاسلامية في بلاد الشام”.
عادت إلى حضن الوطن، وبدأت التدريس في جامعة دمشق – كلية التربية، ثم انتقلت إلى كلية الآداب، لتدرِّس مادة الترجمة التي استمرّت في تدريسها حتى عام ١٩٩٠. بعدها، تقاعدت وذهبت إلى اليمن للتدريس في جامعة صنعاء، ويقيت هناك حتى ٢٠٠٥.
عملت مع زوجها الشاعر “العيسى” في تصنيف آثاره الأدبية، وبعدها بدأ المرض يظهر عليه، فعادا إلى سورية، واستقرا في دمشق، وتفرغت للأعمال الثقافية الأخرى، وتابعت في ترتيب أعمال زوجها، وبدءا معاً العمل في الترجمة والتأليف، وبترتيب كتبه ودواوينه.
من هذه الدواوين، أنا و اليمن، أنا والجزائر، أنا و لبنان، أنا والعراق، أنا ومصر، أنا وجزيرتنا العربية، أنا والعروبة، وأنا والطبيعة… الخ.
عملت أيضاً مع زوجها الشاعر في تأليف كتب ومسرحيات للأطفال، ومنها “شعراؤنا يقدمون أنفسهم للأطفال” و “أناشيد”.
مؤلفاتها عن الشاعر “سليمان العيسى”
ألّفت عن حياة وتجربة الشاعر “سليمان العيسى”: “لمحات.. مع سليمان العيسى” و “سليمان العيسى ذاكرة اللواء”، وألَّفت مع الدكتور “علي القيم” كتاباً يتناول حياة الشاعر ونشاطه وآثاره، وهو “سليمان شاعر العروبة والطفولة”.
ألّفت أيضاً، “رحلة كفاح” وهو مسيرة حياتهما الكفاحية والأدبية.. مسيرة حياة غادرها راحلاً عن “ملكة”، التي لم تتوقف عن السعي لحفظِ إرثه الشعري.
كلّ هذا، إضافة إلى اهتمامها بالشباب الذين قدمت لهم “أدب الشباب” و”أضواء على الثقافة والتربية في بلاد الشام” و “التربية في الوطن العربي”، لتنتقل بعدها إلى الترجمة في مجال الأطفال، وإلى كتابة الدراسات التي تتعلّق بأدبهم، مثلما بأدب المرأة والإنسان عموماً.
في سنواتها الأخيرة، سافرت إلى كندا لزيارة ابنتها د. “بادية” وهناك زارت أضخم المكتبات، وأخذت الكتب التي تهم مجتمعنا، وقامت بترجمتها إلى اللغة العربية، وقدّمتها للهيئة العامة السورية للكتاب.
مع سورية وشاعرها خلال الحرب
لم تترك “ملكة” بلدها كلّ فترة الحرب على سورية، إلا لبعض الزيارات القصيرة، لزيارة أولادها في الخارج، وقد كانت تقول دائماً: “سورية أعطتنا الكثير، ومن واجبنا أن نقف معها في هذه الحرب”.
في فترة مرض زوجها، كانت له السند والقوة، وعندما بدأ المرض يتسلل إلى قدميه، كانت عصاه التي يتَّكئ عليها، وعندما بدأت يداه بالشلل، كانت يراعه الذي يسطر ذاكرته وإبداعه، وعندما فقد النطق، كانت بوح كلماته وبسمته، واليد التي تحول حياته في كل لحظه إلى أمل.
كانت ملكته، وكان يرددها دائماً، كلمات تنبض بالحب والوفاء لهما معاً، قصائد نذكر منها، وقد وردت في ديوان “قصائد صغيرة.. لي ولها:”
وأكتُبُ
أَجُـرُّ ورائِيَ الـزَّمَنَ الثقيلا
وأكتُبُ
ما أزالُ أَخُـطُّ
ما يَـهوي على قَلَمي
وأَمـلأُ بالسَّـوادِ بَيـاضَ أوراقـي،
قُصـاصاتي ..
أُسـمّيها :
رُؤايَ .. خَواطِـري .. حُلُمي…
** *
لِـمَ الـوَرَقُ ؟.
لِـمَ الأَرَقُ ؟.
وهـلْ أَجْـدَتْ حَرائِقُنــا فَتيـــلا؟.
وتَفتـحُ دفتـري .. لِتقولَ لـي :
إِنّـي اُحِبُّـكَ ..
أيُّهـا اللحـنُ الممَـزّقُ ..
أنتَ أقرَبُ مـا تكـونُ إلـيَّ
حينَ تَخُطُّنـي بيتين ..
يَختـزِلانِ في بَيْدائِنا السّـفَرَ الطويلا
التاريخ: الثلاثاء9-3-2021
رقم العدد :1036