الثورة أون لاين – فؤاد الوادي:
تستنزفنا المصطلحات والمفاهيم كثيراً وتُغرقنا في أحيان كثيرة في متاهات البحث عن التفاصيل التي لا تضيف شيئاً إلى العنوان الرئيس، بل إنها قد تحيدنا في بعض الأحيان عن الغايات والأهداف الخفية والحقيقية للمصطلح أو للمفهوم، لاسيما إذا كان قادماً أو مُصدراً من خارج الحدود، ولا نقصد هنا الحدود الجغرافية فقط، بل الحدود الأخلاقية والقيمية والإنسانية التي تحكم الفرد والجماعة والمجتمع بشكل عام والتي تشكل في نهاية المطاف هوية وانتماء الإنسان لوطنه وحاضره ومستقبله.
لطالما برعَ الغرب في تصدير نفاياته وسمومه الأيديولوجية الثقافية والفكرية إلى مجتمعاتنا، ولطالما برعنا نحن بالمقابل باستقبال واستهلاك تلك الثقافات وإلى حدود التخمة القاتلة التي أعمت كل جوارحنا عن التفكير والتحليل المنطقي والموضوعي لهذا التوجيه الهائل لتلك الأفكار والثقافات من قبل دول الغرب نحونا، مع أنه كان يكفي مجرد قراءة واعية للعمق الغربي لاستشفاف واستنباط التأثيرات الكارثية لكثير من المفاهيم الغربية السائدة في المجتمعات الغربية، لاسيما تلك التي أدرجت تحت عناوين زائفة وخادعة كالحفاظ على الحقوق والديمقراطيات، وحماية الحريات الأساسية للإنسان ومنها حرية الفرد في التصرف كيفما يشاء دون الأخذ بعين الاعتبار كل القيم والحدود الأخلاقية والإنسانية.
من أبرز وأخطر تلك المفاهيم الزائفة التي صدرتها الديمقراطية الغربية إلى مجتمعاتنا كانت (الليبرالية الحديثة) التي لا تزال تفعل فعلتها في كل المجتمعات التي وصلت إليها، لذلك نقول: إنه من الأهمية بمكان دراسة وتحليل ومقاربة الغزو الفكري والثقافي والاجتماعي الغربي الذي بات يسيطر على الكثير من تفاصيل حياتنا إلى درجة أنه بدأ ينهشنا من داخلنا ودون أن نشعر، لاسيما مع ارتفاع نسب الآثار والنتائج الكارثية والمخيبة لهذا الغزو الأجنبي الممنهج والمتواصل بصور وأشكال وأقنعة مختلفة ومتنوعة وجذابة في معظمها تحت عناوين أكثر بريقاً وسحراً، خصوصاً لشعوب المنطقة وشعوب العالم الذي يسمى اصطلاحاً بـ (العالم الثالث) كناية عن الجهل والتخلف والفقر الذي يحوطه من كل اتجاه.
المحزن في الأمر وإلى حدود الفجيعة أن البعض يصفق لهذا الغزو على اعتبار أنه ضرورة وصيرورة طبيعية تفرضها تطورات الحياة والتاريخ واللحظة، وهذه الشريحة من الناس تنطلق في ذلك من كونها تعتبره أداة من أدوات التحضر والعصرنة التي تفرض استقبال التطور بكامل منظومته وشموليته وأدواته، لأنه منظومة ووحدة متكاملة لا تتجزأ، أي أنه لا يمكن استقبال واستهلاك جزء وترك جزء أو أجزاء، لكن الأهم والمهم برأي أولئك الأشخاص هو القيام بعملية الغربلة والفرز التي تعقب وصول موجات وشحنات الغزو الثقافي والفكري.
لكن تلك الشريحة من الناس، وبغض النظر عن صوابية أو كارثية ما تقول، تجهل أن عملية الفرز بعد وصول السم إلى داخل الجسد والمجتمع هي أمر مستحيل، طالما أننا نتحدث عن غزو فكري وثقافي ممنهج نبدو غير مخيرين في اختيار مضامينه وبضائعه التي تكون بمعظمها فاسدة ومفسدة، خاصة وأنها جاءت من دول لا تزال تطمح لاستعمارنا واحتلالنا وتدميرنا والسيطرة على مقدراتنا وثرواتنا، مع ملاحظة أن التوقيت هو توقيت حرب وكسر إرادات.
كما يتوجب ملاحظة أن ذلك الغزو يستهدف الثوابت والقيم والمسلمات الطبيعية والعقول، عقول لاسيما الشباب والأجيال الصاعدة التي تعقد عليها الآمال في التطوير والبناء والإبداع، بغية تحويل دورها ووظيفتها وقدراتها إلى الوجهة المعاكسة تماماً، أي إلى الهدم والتدمير ونشر الفوضى والتخلف والأفكار الهدامة التي تنسف القيم والثوابت الأساسية لأي مجتمع ولأي شعب، خصوصاً في ظل هذا الانفتاح العالمي الواسع وبلا حدود على الآخر.
صحيح أن الموضوع شائك ومعقد ويحتاج إلى عناء بحث ودراسة وتحليل ومقاربة، لكننا لا يمكن أن نغفل حقيقة أن هناك استهدافا معلنا من الغرب لقيمنا وثوابتنا وحضارتنا ومستقبل أبنائنا، استهداف ربما يسبق بكثير الاستهداف الإرهابي والاستعماري المتواصل علينا حتى اللحظة ومنذ عقود، لكنه بالتأكيد يواكبه ويوازيه، وربما يكون أشد شراسة ودموية ووحشية وسُميةً منه على المدى الطويل، خاصة بعد فشل جزء كبير من المشاريع والمخططات الاستعمارية والصهيو-أميركية نتيجة وعي شعبنا وصمود وتضحيات جيشنا العظيم وشهدائنا الأبرار.
لقد باتت (الليبرالية الحديثة) أخطر أدوات وأسلحة الغرب الحديثة والفتاكة لضرب ثوابتنا وقيمنا ومبادئنا ونسف كل معتقداتنا من جذورها، عبر تسويق ونشر منهجيتها تحت عناوين الحرية الفردية التي تجعل من الفرد أساس كل شيء بدلا من الأسرة والمجتمع، ومن خلال ضرب المسلمات التي من شأنها أن تؤدي إلى تصدع وانهيار الثنائيات الطبيعية للإنسان عموما، ولشعوبنا العربية على وجه الخصوص وهذا كله بهدف إضاعة البوصلة وتشتيت الفكر والعقل عن المبادئ والقيم الحقيقية للإنسان، أي إغراقه في أيديولوجيات خادعة وزائفة ترتدي أثوابا براقة للحرية والديمقراطية.