الملحق الثقافي:أمجد سيجري
تتنوع أساطير الخلق في العالم، وتُظهر في كثيرٍ من الأحيان اختلافات في مواضع، واتفاقاً في مواضع أخرى، وكلّ أسطورة تختلف عن الأخرى نتيجة العوامل الاجتماعية والاقتصادية، ولاحقاً السياسية لكلِّ شعبٍ يتبناها وتساهم في تكوين العامل النفسي له، والمثير في معظم تلك الأساطير، اتفاقها على أن «الماء» مبدأ الوجود المعروف لديها بالمحيط الكوني، أو مياه الأزل أو مياه الفوضى.
مياه الفوضى، هي إحدى أساطير الخلق لدى العديد من ثقافات وحضارات العالم، أو الكون الذي يلفه الماء البدائي، وهذه الأساطير غالباً ما تبدأ بالمياه البدائية التي تملأ الكون بأكمله، كونها المصدر الأول لعالم الآلهة، بفعل الخلق الذي يسعى لإنشاء فضاء يصلح للعيش.
لفهم هذه الظاهرة، علينا دراسة التشابهات بين أساطير الشعوب المختلفة، ومحاولة فهم أسباب التشابه وخصوصاً من ناحية ترتيب الفوضى، وبناء النظام فوقها. على سبيل المثال، في أسطورة الخلق السومرية نجد أن البداية كانت مع الإله «نمو». المياه الأولى أو مياه الأزل لا شيء معها، فكانت مياه الخلق التي انبثق عنها كل شيء، فقامت بخلق «أن» الذكر «إله السماء» و «كي» الأنثى، ومن تزاوجهما كان الإله «إنليل» الذي فصلهما عن بعضهما، فدفع الأرض للأسفل والسماء للأعلى.
وفي أسطورة الخلق البابلية» «Enûma Elish» «إنوما إيليش» أو «عينوما عليش» لم يكن في البداية سوى «أبسو» و«تيامات» ومعهم «ممو» بخار الماء أو الضباب، و«أبسو» و«تيامات» هما الشكل الذكوري والأنثوي لمياه الفوضى التي نظمها الإلهان «إيا» الذي قتل «أبسو» وتبوَّأ مكانه وبنى فوقه هيكلاً له، وولده «بل» أو «مردوخ» الذي قضى على الفوضى المتمثلة بـ «تيامات» وشطرها نصفان ليصنع من شطريها الأرض والسماء.
أما في الأسطورة السورية الأوغاريتية، فالإله «يم» هو «إله البحر والمياه الفوضوية»، وبعد انتصار الإله «بعل» على الفوضى المتمثلة بالإله «يم» شرع بتنظيم العالم وبنى هيكلاً له.
وفي معظم أساطير الخلق المصرية، تظهر المياه الأولى، أو مياه الأزل بالاسم «نو» أو «نون» الذي تخرج منه اليابسة، التلة الأولى تلة الازل، ومعها يخرج الإله «رع» ليكون شمساً ومسؤولاً عن الكون، بينما «نون» بقي في حدود الكون، ممثلاً للموت والفوضى، موطناً للنفوس المعذبة التي لم تخضع للتطهير، ومع ملاحظة أننا نجد في أحد الأساطير ما نجده في بابل وسومر حول انطباق السماء على الأرض، وفصل الهواء لهما، نجد في الجيل الثالث من الآلهة أن «ﺟﻴﺐ» ﺇﻟﻪ ﺍلأﺭﺽ ﺍﻟﻤﺬﻛّﺮ، ﻭ«ﻧﻮﺕ» آﻟﻬﺔ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﺍﻟﻤﺆﻧﺜﺔ، كانا زوجان في ﺣﺎﻟﺔ اتّحاد، وكان زواجهما دون مباركة الإله «رع»، فبعث الإله «شو» إله الهواء والجفاف، والدهما فأبعدهما عن بعض، وداس بقدمه «جيب» ورفع بيديه السماء «نوت».
أيضاً، تصف أساطير الخلق الهندوسية مياهاً بدائية، ويقال إن الإله «الڤيدي براجاباتي» ومعنى اسمه «سيد الخلق»، وغالباً ما يتم تعريفه مع الإله الهندوسي الشهير «براهما»، قد ولد من بيضة ذهبية تمَّ احتضانها لمدة عام في المياه البدائية، وفي رواية أخرى، خرج من زهرة اللوتس التي كانت تعوم على المياه البدائية .
وفي التوراة، نجد الوصف الموافق للأساطير السابقة، فالمياه الأولى وروح الربِّ ﻓﻮﻗﻬﺎ، ونقرأ عن ذلك في التكوين 1:
«وكانت الأرض خربة وخالية، وروح الربّ ترفّ فوق وجهِ الماء»، كما نلاحظ قيام إله التوراة بذات الفعل الذي قام به «مردوخ» في فصل مياه الفوضى «تيامات»، وخلق السماء والأرض منها، فالنص التوراتي أقرب منه للبابلي من السومري، ففي التكوين 1:
قال الله تعالى: «ﻟﻴﻜﻦ ﺟﻠﺪ في وسط المياه، ﻭﻟﻴﻜﻦ فاصلاً بين مياهٍ ومياه».
وفي القرآن الكريم، نجد أيضاً اﻟﻤﻴﺎﻩ البدائية، فنقرأ مثلاً في «سورة هود»: «ﻭﻫﻮ ﺍﻟﺬﻱ ﺧﻠﻖ ﺍﻟﺴﻤﻮﺍﺕ ﻭﺍلأﺭﺽ ﻓﻲ ﺳﺘﺔ أﻳﺎﻡ، ﻭﻛﺎﻥ ﻋﺮﺷﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺎﺀ»، وتأكيد على الخلق من الماء، «سورة الأنبياء»: «ﻭﺟﻌﻠﻨﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺎﺀ ﻛﻞّ ﺷﻲﺀ ﺣﻲ»، ونلاحظ توافق النص القرآني مع الأسطورة السومرية، أكثر من البابلية حيث يقدم وصفاً لفصل السماء عن الأرض.
كلّ هذا يدفعنا للتساؤل: لماذا الماء؟.
قامت مدرسة التحليل النفسي، بتفسير ﻧﻈﺮﻳﺔ الخلق ﺍﻟﻤﺎﺋﻲ ﻋﻠﻰ ﺃﻧّﻬﺎ ﺍﻧﻌﻜﺎﺱ لذكرى كامنة في لاشعور الإنسان، ﻋﻦ ﺣﺎﻟﺔ ﺍﻟﺠﻨﻴﻦ ﻓﻲ ﺭﺣﻢ ﺍلأم، ﺣﻴﺚ ﻛﺎﻥ ﻣﺤﺎﻃﺎً ﺑﺎﻟﻤﺎﺀ «السائل الأمنيوسي» ﻣﻦ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﺠﻬﺎﺕ، وهو ما يمثل الخلق من الماء والخروج منه نحو العالم الخارجي الجاف، ﻛﻤﺎ ﺃﻥّ هذه ﺍﻟﻤﺪﺭﺳﺔ ﺗﺴﺘﺨﺪﻡ أﺳﺎﻃﻴﺮ ﻓﺼﻞ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻋﻦ ﺍلأﺭﺽ، لتأكيد ﻭﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮﻫﺎ ﻓﻲ ﺳﻴﻄﺮﺓ «ﻋﻘﺪﺓ أﻭﺩﻳﺐ» ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺸﻐﻞ ﺣﻴﺰﺍً ﻛﺒﻴﺮﺍً ﻣﻦ ﻧﻈﺮﻳﺔ «سيغموند ﻓﺮﻭﻳﺪ»، ﻓﺎﻟﺮﻏﺒﺔ المكبوتة في لاشعور الطفل، والمتعلقة بإبعاد الأب والاستئثار ﺑﺎلأﻡ، ﺗﺠﺪ ﻣﺘﻨﻔﺴﺎً ﻟﻬﺎ ﻓﻲ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻻﺳﻄﻮﺭﺓ، ﺣﻴﺚ ﻳﻘﻮﻡ ﺍﻟﺒﻄﻞ ﺑﺈﺑﻌﺎﺩ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ «الأﺏ»، ﻭﺍﻟﺒﻘﺎﺀ ﻓﻲ ﺍلأﺭﺽ «اﻷم».
من خلال الملاحظة البسيطة خارج التحليل النفسي، يمكننا معرفة أهمية الماء لوجودنا دون تعقيدات، فيجد الملاحظ أن حياته وحياة بقية الكائنات، تعتمد على ركنين أساسيين بزوال أحدهما ينتهي وجوده، وهما الغذاء والماء. بالنسبة للغذاء، تتعدَّد الأشكال والبدائل التي تتجاوز مئات الألوف من الأنواع، فإذا غابت مادة فيوجد بديل لها، أما الماء فهو مادة واحدة وفي حال اختفائها ينتهي الوجود .
يدرك الملاحظ أيضاً، أن المياه الفوضوية غير المضبوطة، تحمل الخراب والموت عن طريق الأعاصير والفيضانات، ولذلك اعتبره القدماء عنصراً إلهياً فريداً غامضاً، فهو يجمع ثلاثة أشكال، صلب وغاز وسائل، ويجمع المتناقضات كالموت والحياة في آثاره، ولهذا يُعتبر لدى الفلاسفة القدامى، وبعض الثقافات، عنصراً إلهياً أساسياً للكون.
أما بالنسبة لدور المياه في التقاليد الدينية، فهو هام في الحياة الجسدية والروحية للمتدين، فتستخدم بعض المعتقدات المياه المعدّة خصيصاً للأغراض الدينية، وتسمّى «المياه المقدّسة» وهي موجودة في معظم الأديان، كالمسيحية والإسلامية والمندائية السيخية والهندوسية.. الخ .
كما تَعتبر العديد من الديانات، بعض المصادر المائية مقدسة، أو على الأقل مباركة، نتيجة ارتباطها بشخصيات مقدسة، أو ورودها من أماكن أو جبال مقدسة. مثلاً، نهر الأردن له قدسية في بعض الكنائس المسيحية، وبئر زمزم في الإسلام، ونهر الغانج في الهندوسية.
إنه ما أدّى غالباً، إلى دمج المياه في العمارة المقدسة، وأحد أقدم الدلالات المهمة على هذا الدمج، في الأساطير ومنها مثلاً، أسطورة «الإينوما إيليش» الإله «إيا» إله المياه العذبة، والذي قام ببناء هيكله فوق «الأبسو»، ولهذه الأسطورة مكانها في بلادنا.
بمراجعة سريعة، نجد أن العديد من معابد بلادنا قد تأسست على ينابيع طبيعية لا يزال بعضها يتدفق خارج المعابد، ويمكن تحليل رمزية هذه الينابيع، بأنها تمثل المياه البدائية، في حين أن المعابد فوقها تدل على ترتيب الكون، ومكان سكن الآلهة في المعبد المقدس. لن أذكر أمثلة عن هذه المعابد، فالأمثلة كثيرة ورائعة تعبر عن هذه الفكرة، مع ملاحظة تشير، إلى أن معابد الأماكن الجافة الفقيرة بالينابيع، اعتمدت على الأمطار الجمعية التي كانت تبني خزانات مياه خاصة بها.
تستخدم المياه المقدسة التي تنبع من المعابد بشكلٍ خاص، والمياه بشكلٍ عام، في طقوس التنقية المختلفة، كالعمادة في المسيحية، والوضوء في الإسلام، والغسيل الطقسي في الديانة اليهودية، بالإضافة إلى الطقوس التي تعتمد الماء النقي لغسيل للموتى في العديد من الأديان، بما في ذلك اليهودية والإسلام، فهي ترمز إلى التطهير والولادة الجديدة والخصوبة، وهذا ما نجده ضمن حكايا الطوفان المختلفة حول العالم، ابتداءً بطوفان «زيوسودرا» و«أتراحاسيس» و «أوتنابشتيم»، و«فيضان النيل» الذي يجلب معه المخلص «أوزوريس»، و انتهاءً بـ «فيضان نوح» .
باختصار، لقد أدرك الإنسان منذ القدم، أهمية الماء في إزالة الأوساخ المادية والأدران العالقة به، وما تحمل هذه العملية من راحة جسدية ونفسية له، فاعتقد أن المياه التي تنبع من الأماكن المقدسة، ستقوم بتطهير مزدوج، جسدي وروحي. تماماً، كمطر الشتاء الذي يغسل خطايا الصيف، ليجلب الخلاص للأرض في الربيع.
التاريخ: الثلاثاء16-3-2021
رقم العدد :1037