«عصرُ الفراغ».. والنرجسيّة الفردانية لما بعد الحداثة

 

الملحق الثقافي:هفاف ميهوب:

دراساتٌ ومقالاتٌ كثيرة، جمعها الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي “جيل ليبوفتسكي” في “عصر الفراغ”. الكتاب الذي اعترف في مقدمته، بأن ما دفعه لاختيار هذه الدراسات والمقالات:
“الرجّة التي هزّت المجتمع والأعراف والفرد المعاصر، في زمن الاستهلاك الجماهيري، وبروز نمط جديد من التنشئة الاجتماعية والفردية.. زمن الخصخصة التي تأكل الهويات الاجتماعية، والتي أدت إلى سخطٍ إيديولوجي وسياسي، وتزعزع متسارع لاستقرار الشخصيات، وبروز عملية الشخصنة في فضاءات الحياة الاجتماعية على نحوٍ متزايد. أيضاً، تراجع العملية الانضباطية في مجتمع ما بعد حداثوي، تسود فيه اللامبالاة، ويهيمن فيه الإحساس بالتكرار والمراوحة بالمكان، والاستقلالية الفردية، مع توقف الناس عن رؤية المستقبل كرديفٍ للتقدّم الحتمي.. الأهم، بروز النرجسية وتواطؤها مع منطق الفراغ”.
إغراءٌ لا يتوقف
هو عنوانٌ بدأ “ليبوفتسكي” به، ليسأل بعدها: “ماذا عسانا نسمّي هذه الموجه العارمة التي تميّز عصرنا، وتحلّ أينما يمّمتَ وجهك؟!!.. التواصل مكان الإكراه، والاستمتاع مكان المحظور، والمفصّل على المقاس مكان المجهول، وتحميل المسؤولية مكان التشيُّئ”.
إنه ما أدّى إلى بروز المجتمع الاستهلاكي، وغزارة منتجاته وصوره وخدماته، واتّساع نطاق استراتيجية الإغراء فيه، وعبر تكنولوجيا السوق التي قدّمت تنوّعاً واسعاً في السلعِ والخدمات، وإلى أن بات هذا الإغراء:
“الاغراء ما بعد الحداثوي، لبس مادة بديلة عن التواصل الغائب، ولا سيناريو يهدف إلى التورية عن دناءة العلاقات السوقية، فهو يُعرّف كعملية تحوّل للواقع والفرد، وبعيداً عن كونه عامل تدليس أو سلبية، يعدّ بمثابة هدم بارد، عبر عملية عزل لم تعد تنتظم من خلال القوة أو الأطر القانونية.
لقد بات دونجوان، واستيقظت صورة جديدة تبعث أكثر على القلق، وهي صورة نرجس المفتون بنفسه، في كبسولته الزجاجية”.
قمة اللامبالاة
وكأن اللامبالاة باتت قراراً جماهيرياً، في زمنٍ أحاطت العزلة به سكان الأرض، فاتّجهوا إلى الصحراء بصورٍ مأساوية، ما جعل الصحراء تتفوّق وتنتصر بالتهديد المطلق وقوّة السلبي، ورمز العمل القاتل للأزمنة الحديثة وغايتها المروّعة.
إنه أمرٌ يراه الكاتب غريب، ويرى بأن الأغرب منه:
“هذه الصحراء تجتاح بصمتٍ حياتنا اليومية، في قلبِ المدن الكبرى المعاصرة، وليس صحيحاً أن الصحراء تدفع إلى تأمل لحظات الشفق السقيمة، وإنما هي وجهةٌ لموجاتٍ جماهيرية ضخمة، بدأت تنسحب، تاركة القيم والغايات الكبرى مفرّغة من جوهرها، ومتّجهة إلى حيث العدم”..
هي أيضاً، وكما سماها “لامبالاة عملية” ذلك أن عمليات الفرار الجماهيري هذه “لا تترتّب عن عجزٍ ما، أو نقص في المعنى، إذ أن حالة التسكّع هي أثر يرجع إلى عملية الشخصنة، وتُحسب على البرمجة التي تنظّم عبر مجتمعاتنا، من وسائل الإعلام إلى الإنتاج، ومن وسائل النقل إلى الاستهلاك، فلم تعد هناك مؤسسة لا تخضع لاستراتيجيةٍ تراجعت بسببها المُثل والقيم العليا، في نسقٍ منظّم وفق مبدأ “العزل الناعم”، وما تبقّى، بحثٌ عن الأنا والمصلحة الخاصة، التحرّر الشخصي، فقدان الحافز، الانطواء المنغلق، وهجر الفضاء الاجتماعي، والتواصل قيم وحيدة، والاختصاصيون النفسيون، كبار كهنة الصحراء”…
يعاود الكاتب السؤال هنا: هل يكون الانتحار هو المحطّة النهائية في الصحراء؟!..
يسأل ليجيب: “ربما يكون الانتحار أو الانهيار، ذلك أن الإنسان المعاصر يتميز بكونه يعبر الصحراء وحيداً، ويتصرف بهشاشة معلناً: اتركني وحدي، غريب عن الآخرين، عاجزٌ عن التعايش معهم”ّ…
هنا تتفاقم العزلة، وتتّسع، فليس للصحراء بداية أو نهاية.. حتماً هي وكما سماها:
نرجس أو استراتيجية الفراغ
لطالما يجب على كلِّ جيلٍ أن يعرف نفسه وهويّته، من خلال شخصية أسطورية أو خرافية يقرأها وفقاً لإشكاليات اللحظة، فإن أسطورة “نرجس” هي في أعينِ كُثر من الباحثين، ولاسيما الأميركيين، ترمز للزمن الحاضر، فلقد أصبحت النرجسية أحد الموضوعات الرئيسية في الثقافة الأميركية.
إنه ما أشار إليه الكاتب، مستعيناً بأمثلة منها: انتشار كتاب “ثقافة النرجسة” وكونه من أكثر الكُتب مبيعاً في كلِّ أنحاء أميركا. فـ “ظهور هذه النرجسيّة على الساحة الفكرية، بات ذو أهّمية تُجبر البشر على التحوّل الأنثروبولوجي، في كامل راديكاليته، وهو ما يَشعر كلّ إنسان بشكلٍ من أشكاله، فالعصر الذهبي للفردانية، التنافسي على المستوى الاقتصادي، العاطفي على المستوى البيئي، والثوري على المستوى السياسي، قد انقضى، وهناك فردانية آخذة في التشكّل، ومتحرّرة من آخر القيم الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية.
إذاً، المحيط الاجتماعي، محطّ هجرانٍ معمّم، والاهتمامات باتت شخصيّة بحتة. لقد فقد الشأن العام حيويّته، وأصبحت القضايا الفلسفية الكبرى، والاقتصادية أو السياسية، تثير الفضول الذي يثيره أيّ حدثٍ من الحوادث، وبذلك “سقطت كلّ القيم تدريجيّاً، مسحوبة بالتحييد والابتذال الاجتماعيين، ووحدة الفضاء الخصوصي يخرج منتصراً. لقد بات يعيش دون مُثلٍ عليا، أو غاية سامية ممكنة. هي نهاية الإنسان السياسي، ومقدّمة لبداية الإنسان النفسي، الباحث عن فرديّته ورفاهيته، وهو ما جعلنا نعيش في ظلِّ “ثقافة الشخصيّة”.
ما بعد الحداثوية .. انحطاطٌ أخلاقي وجمالي
هو مفهومٌ، يبقى ورغم محاولات تعريفه وتوضيحه غامضاً، بل لقد أصبح موضة، ولابدّ لكلِّ من درجت لديه هذه الموضة، من سؤال نفسه قبل كلِّ شيء: “هل يتعلّق الأمر باهتراءِ ثقافة متعبة وطليقة، أم بصعودِ قوّة جديدة مجدّدة؟!!.. هل هو تقهقر الزمن الذي فقد تقاليده، أم إحياء للحاضرِ من خلال إعادة الاعتبار للماضي؟!!. أيضاً، هل هو انقلابٌ في تاريخ الفنّ، أم قدرٌ شاملٌ للمجتمعات الديمقراطية؟!!.
يرى “ليبوفتسكي” أن “الأمر يتعلّق بالرأسمالية التي تعاني، ومنذ أكثر من نصف قرن، من أزمة ثقافية عميقة ومفتوحة، مزَّقت أوصالها الحداثوية التي يقوم منطقها على القطيعة، ونفي التقاليد، وتقديس الجديد والتغيير..”.
هكذا رآها الكاتب، عملية تمرّد ليس فقط ضدّ ذاتها، بل ضدّ كلّ معايير المجتمع وقيمه، وهو ما بدأت بـ “الثورة الثقافية” في نهاية القرن التاسع عشر، دون أن يتمكّن فنانو ومثقفو الحداثوية، من تحقيق مساواه ديمقراطية وعادلة.
نعم، التجديد الحداثوي، هو حليف الفضيحة والقطيعة، ويتقدّم الفنّ المعاصر بشكلٍ غير إنساني، يختفي التمعّن الجمالي والتأويل العقلاني، لصالح الإحساس والآنية والتزامنية، وإلى الحدِّ الذي يمكن أن يسمّي الطليعة فيه “طليعة مجتهدة” وهو ما اعتبره: “تجلِّياً فنِّياً لما بعد الحداثة، فهي تراوح مكانها بسبب التكرار وتعويض الإبداع بالمزايدة، ولا يعدو ما بعد الحداثوية أن يكون، إلا اسماً للتعبير عن الانحطاط الأخلاقي والجمالي لعصرنا”.
من العنف المتوحش إلى مجتمعاتِ الدمِّ
فصلٌ آخر، يركّز فيه “ليبوفتسكي” على اتّساع رقعة التهويل الإعلامي، والمناخ المتأزّم، وانعدام الأمن على مستوى العالم، والفضائح والكوارث. أيضاً، العنف، ولاسيما عنف الحروب التي تترك آثاراً مهيمنة لدى تشكيلات اجتماعية متنوّعة طيلة آلاف السنين. العنف الذي بقيت وحشيته وقسوته، تحظى بشرعيّتها إلى الحدِّ الذي باتت فيه، عنصراً من عناصرِ المتعة المرغوب فيها.
لكن، إذا كان العنف لدى القبائل البدائية، غير مُحدَّد بنظام تشريعي أو قضاة أو محاكم، من أجل معاقبة القاتل، إلا أنه لدى المتحضِّرين، أمرٌ مثير للجدل.. ذلك أن الحرب خصوصاً، غيّرت من وظيفتها على نحوٍ جذريٍّ مع ظهور الدولة، فتحوّلت من أداة للتوازن والمحافظة على النظام الاجتماعي القائم في ظلّ المجتمع البدائي، إلى وسيلة للغزو والتوسّع والأسر أيضاً، بل وقد تمكّنت برأيه:
“تمكّنت الحرب من الانفتاح على الفضاء والهيمنة، عبر الانفصال عن قاعدة الانتقام، من خلال تفويض سلطة التبادل مع الأموات، ولطالما بقي الدَّين تجاه الأموات مبدأً سامياً، يحكم الحياة الاجتماعية، تكون الحرب محصورة في حدود نظام ترابيٍّ مقدّس، فالهدف من استعمال العنف، إعادة إنتاج هذ النظام كما تركه الأسلاف. لكن، وحالما تنشأ الانقسامات السياسية، تكفُّ السلطة عن الخضوع لمبدأ أولوية العلاقة مع الأموات، فهذا الأخير يحكم منطق تبادليّ، بينما تُنشأ الدولة من خلال عدم تماثليّتها، مبدأً مناقضاً لعالم التبادل”.
هكذا احتكرت الدولة المهيمنة الحرب، وحصلت على الأراضي والعبيد، وبنت الحصون، وجيَّشت الجيوش، وفرضت الانضباط والسلوك العسكري، وبدأ بذلك عصرٌ جديد من تقديسِ القوة والهمجية، اللتين ميّزتا نظام العنف في مجتمعات ما قبل الحداثة، وما بعد التحضُّر، حيث مجتمعات الدم والقسوة والوحشية والعدوانية والرعب.
باختصار.. هو عصر الفراغ. العصر الذي يفتقد للحب والأمل والمستقبل. عصر الصراعات والعنف والتوحُّش والتمرُّد والإدمان والتيه والفوضى والعدم. العصر الذي ختم “ليبوفتسكي” كتابه بقوله عنه:
“عصرُ الاكتئاب العاري من الحلم، والغرق في الأدوية، ومواد التذويب والتلميع. لقد حلّ محلّ العنف الطبقي، عنف الشباب الذين يدمِّرون أحياءهم بأيديهم، وكانحطاطٍ أخير، يدخل العنف في دورة تلاشي المضامين، ويتجرّد وفقاً للعصر النرجسي من الجوهر، في تصاعدٍ فائق الواقعية”.

التاريخ: الثلاثاء30-3-2021

رقم العدد :1039

 

آخر الأخبار
السفير الضحاك: عجز مجلس الأمن يشجع “إسرائيل” على مواصلة اعتداءاتها الوحشية على دول المنطقة وشعوبها نيبينزيا: إحباط واشنطن وقف الحرب في غزة يجعلها مسؤولة عن مقتل الأبرياء 66 شهيداً وأكثر من مئة مصاب بمجزرة جديدة للاحتلال في جباليا استشهاد شاب برصاص الاحتلال في نابلس معبر جديدة يابوس لا يزال متوقفاً.. و وزارة الاقتصاد تفوض الجمارك بتعديل جمرك التخليص السبت القادم… ورشة عمل حول واقع سوق التمويل للمشروعات متناهية الصغر والصغيرة وآفاق تطويرها مدير "التجارة الداخلية" بالقنيطرة: تعزيز التشاركية مع جميع الفعاليات ٢٧ بحثاً علمياً بانتظار الدعم في صندوق دعم البحث العلمي الجلالي يطلب من وزارة التجارة الداخلية تقديم رؤيتها حول تطوير عمل السورية للتجارة نيكاراغوا تدين العدوان الإسرائيلي على مدينة تدمر السورية جامعة دمشق في النسخة الأولى لتصنيف العلوم المتعدد صباغ يلتقي قاليباف في طهران انخفاض المستوى المعيشي لغالبية الأسر أدى إلى مزيد من الاستقالات التحكيم في فض النزاعات الجمركية وشروط خاصة للنظر في القضايا المعروضة جمعية مكاتب السياحة: القرارات المفاجئة تعوق عمل المؤسسات السياحية الأمم المتحدة تجدد رفضها فرض”إسرائيل” قوانينها وإدارتها على الجولان السوري المحتل انطلقت اليوم في ريف دمشق.. 5 لجان تدرس مراسيم و قوانين التجارة الداخلية وتقدم نتائجها خلال شهر مجلس الشعب يقر ثلاثة مشروعات قوانين تتعلق بالتربية والتعليم والقضاء المقاومة اللبنانية تستهدف تجمعات لقوات العدو في عدة مواقع ومستوطنات “اللغة العربيّة وأثرها في تعزيز الهويّة الوطنيّة الجامعة”.. ندوة في كلية التربية الرابعة بالقنيطرة