« شُرْفَة في الهَواء» .. حُلْم في الطَرِيق إلى التَبَدُّد أَم التَجَدُّد؟

الملحق الثقافي:د. مصطفى الكيلاني *

مُكتَظا بِالأَحْلام، طافِحاً بِالأوْجاع أراه في «شُرْفة في الهَواء» (تُونس: دار الشنفرَى للنشر والتوزيع، 2021). وبعضُ الموْصُوف الشِعْرِيّ مُتَكَرِّرٌ، وبعضُه الآخر حادث. بِلَحظات القَصائد في زَمَنِيّة واحِدَة جامِعَة تَصِل بَيْن 28/ 7/ 2020 و15/ 2/ 2021.
أمّا المكانُ فَواحِدٌ، تقريباً، وإِنِ اتَّسع قليلاً بِما تجاوز «المَنزه التاسع» و»المَنار» إلى «سبيطلة» في قَصِيدَة واحِدَة («خارج الحلبة»، المُؤَرّخة في 8/ 8/ 2020).
وإِذَا مَكان القَصائِد حابِسٌ حَبِيس، بِتَأثِير واقعٍ كُورونِيّ شَدِيد الوطأة على النَفس، مُحَفّز على التفكير حَدْسًا في زمنٍ شِبْه ساكن تِكْرارِيّ يَدْفع ضَرُورةً الذات الشاعِرَة إلى اللّواذ بِجُوّانِيّتها.
يحلم الشاعر ثُمّ يحلم، وَلَيْس له إلَّا حُلم اليَقَظة يتَحدّى به واقع انحِباسه الاضطِرارِيّ، داخل اللَّحْظة والمَوْقع الّذِي يختصر المَكانِيَّة ويختزل الكيانِيّة مَعاً، بِدَلالة «الزَمَن المُحال» يُضحي به الآن حَبِيس آنِيّته، إذْ يسترجع ولا يستبق لِيَفقد بِذَلِك الجُزء الأَهَمّ مِن زَمَنِيّته، كما لا انتِظار حتّى لكأنّه المَوْت يحدث مَجازًا قبل حُدوثه وذلكَ إحساساً به، وإنْ هُو مُؤَجَّل كَأيّ مَوْت في عُمُر الكائن البَشَرِيّ.
يحلم الشاعر، ثُمّ يحلم بِما كان مِن ماضي الوَطَن، أي طُفولة دِمَشق و»الغوطتَيْن» وظلال صُوَر قَدِيمة ﻟِ «فراشة وضَوْء باهر وزهر البُرْتقال…»، إلَّا أنَّ الحُلم مُنقطعٌ في الأثناء، مُشَتّتٌ مُرْتبك بـ «الأحزان والخَراب والدّم…»، والشُرْفة هِي مُنذ البَدْء، كما الحُلم (حُلمها) مُعَلّقة في الهَواء…
مَسْكُونا بِالخَوْف، وَبِخَوْفٍ نادر، هُو عالم «هادي دانيال» الشِعْرِيّ في «شرفة في الهَواء»، وكَأَنَّ عِلّة ذَلِك كامِنَة في غِياب أيّ مُنتظر لِشبه تعطّل الذاكرة في اتِّجاه وانحِباس الأُفُق القادم في اتِّجاه آخر وَضُمور الفَرَح: «لا العُود يُطربنا ولا الجيتار يُنعشنا» (ص17)، بل هَوَس مُسْتَبدّ، والمَشهد الشِعْرِيّ المَوْصُوف في سالف القَصائد، أضحَى مُتقادِماً بِأَشياء باهِتَة، وأَمَل «الفدائيّين» تضاءَل في عالم مُدَمّر مَوْبُوء.
وتتطَلّع الذات الشاعِرَة مِن شرفتها إلى الأَعْلى، حَيْث سَماءٌ جُوانِيَّة لَيْلِيَّة غارِقَة في السَواد، ولا مَدَى ولا صُوَر تتشكّل في الأثناء لِتَسْتَقرّ دَلالاتُها ولو قليلا، عَدَا أطياف ذكريات شِبْه مَيّتة ﻟِ «بَيْرُوت» في ماضٍ بعيد و»جلبَة» كانت ثُمّ تلاشت، تارِكَةً أَثَراً لِذكرَى أُخرى باهتة، في لحظةٍ مِن زَمَن كُورُونِيّ عَصِيب.
وَجَلِّيُّ الذكريات وَطَنٌ مُدَمّر، و»نهر على ضفّتَيْه مُجنزَرَة وجُنود» (ص 30)، كما الثابت عجز الذات الشاعِرَة، وعَجز القَصِيدَة أَيْضاً، المُعلن عن استِيعاب الكارِثَة وإنهائها، وإعادَة تشكيل الحُلم القَدِيم المُتَجَدّد.
وَلِلْحَدَث الكُورونِيّ المُفجِع، تأثِيرُه العَمِيق المُباشر في لحظات القَصائد، إذْ لِتَعطّل الزَمَن الثالث (المُسْتقبل) الّذِي به يُمْكن قبُول الوُجود في الواقع بِما مفادُه «وُجودٌ لِأجل المَوْت»، على حَدّ عِبارة مارتن هيدغر. فَكَيْف بِإمكان الكائن- الإنسان (الشاعر) التَلَهِّي عن الكارثة الأَصْلِيّة الأُولى، الماثِلَة في الكيان ذاته، وعن الكارثة مُمثَّلةً في هذا الزَمَن الكُورونِيّ الّذِي لا يُنتج إلّا المَزِيد مِن المَرْضى، والهالكين بَيْن الفَيْنة والأُخرى.
مَسْرَح الحَياة مُرْعب: «يا إلَهي أرخ الستارة/ فَالدّم فاض على الخشبة/ أيْن ولَّيْتُ وجهي عَمَّ الخَراب/ وعضّ الهواء أنين الضَحايا…» (ص 32).
وإذا الإحساسُ بِالمَوْت حَدٌّ مُستنفر في «شرفة في الهواء» ﻟـ «هادي دانيال»، نَتِيجَةَ ضُمور المُسْتقبل، الّذي يحيا به الإنسان أَمَلاً يستعيض به عن التَسْلٍيم بِالنهايَة المَحْتُومة الّتي لَوْلاها لما كانَ للإنسان مَعْنى، وبهذا المَوْت القادم المُمْكن، تتشكّل قِيَم البُطولَة والنِضال ومَحَبَّة الآخر، والانتِصار لِحَضارَة الإنسان، وَيُجَمَّل القَبِيح ويُؤنَّس الشَرّ الناتج عن أنانِيَّة الفرْد ونَرْجَسِيَّته، ورغبته الجَموح الدائِمَة في انتِزاع اعتِرافِ الآخر، فَرْداً أو جَمْعاً، بِالعُنف القاتل أحياناً كثيرة.
كَذا «شُرفة» الشاعر فهي مُعَلّقةٌ في أعلى هواء، بَيْن أَمَل وأَمَل، بَيْن ارتِغاب وآخر، لِذَا تحرصُ الذات الشاعِرَة على تَصْوِيب البَصِيرة مِن خِلالها إلى مكان خارجيّ مُفترضٍ غارق في السَواد، وإلى أُفُق بِلا أُفُق، مُتَوسِّلة بِلُغة شبه قاصِرَة عن استِيعاب الوَقائع والحالات الحادِثَة، فتبحث لها عن استِعارات جَدِيدَة، وإنْ بِعَناصِر المَوْصُوف الشِعْرِيّ السابِقَة الّتِي اعتَدْنا عَلَيْها في قِراءَة قصائد «هادي دانيال» عَبْر مُختلف تجربته الشِعْرِيّة.
فلا بَدِيل للشاعر في هذا المَأزق الكَيْنُونِيّ، الحَادث عن قِيَمه النَبِيلة الّتِي نذَرَ لها حَياتَه مُنذ بَدْء شَبابه، ومُختصرُها حُلمه وعِشقه لِلْوَطَن (سُورِيّة) ولِفلسطين، واعتِقاده الجازم في الحُرِّيَّة الإنسانِيَّة، وَوُجوب مُغالبة الاستِلاب والاستبداد، والقَهر والاستغلال والفَساد…
هُو الوَجَعُ، إذنْ، كِتابَة الوَجَع ضمنَ قَصائد «شُرفة في الهَواء»، الوَجَع الناتج عن تَعاقُب الهَزائم والخيانات. فَالوَطَن جَرِيحٌ نازف، وفلسطين ذَبِيحة. والمُتَآمرُون علَيْها كُثُر مِن عَرَب وغَيْر عَرَب، ولا تفريق في مَشهد الفاجِعة المَوْصُوف بَيْن ما حَدث لِلْوَطَن (سُورِيَّة) وما حدث ويَحْدث اليَوْم لِفلسطين الحَبِيبة.
هُو الدّم، الدّم حِسّاً، والدَّمّ مَجازاً بِرَمْزِيّة الما- حَدَث والما- يَحدث في تاريخ أُمّة مُسْتَباحة، بَلَغ بها الوَهن أَشدّه، فَأَضحت شتاتاً تَعصِفُ بها رِياح العَدَم مِن كُلّ صَوْب وَحَدْب، لِيَتضاءَل الأَمَل بِذَلِك، ويَضمر الحُلم في زحمة الكَوابِيس تعقبها كَوابِيس.
ولأنَّ لِلِشِعْر إيقاع التِكْرار صَوْتاً ودَلالةً وَتِدْلالاً، فَلِلْقَصائِد تَغايُر لَحَظاتها في اتِّجاه، وتماثل مَعانِيها في اتِّجاهٍ آخر، حتّى لكأنّها جُملة أو جُمَل مَعْدُودة بدوالّ شبه ثابتة، تختلف مِن سِياق حالٍ واصِفَة إلى سِياق حال واصِفَة أُخرى، وَالمَدارُ «شُرفة في الهَواء»: واقِعُ انحِباس حِينِيّ وإن تَعَدّدت الحَرَكات مِن مواطن إلى أُخرى في المَكانِيّة الواحدة، وذاكِرَة مُنهَكَةٌ، وَوَطَن جَرِيح وفلسطين ذَبِيحة، هستِيرِيّا غَضب على عَرَب فَرّطُوا في كُلّ شيءٍ مِن شرف ومَجْد، وقُبح كيان آخذ في الاستفحال، وحياة ذابلة، وإرادَة مفلُولة، وانتِظارٌ بلا مُنتَظَر، وطبيعة كأنّها المُحتَضَرة: «كانَ الهَواء يَئِنُّ/ والآفاق جهمة/ مَرّت على عينيّ غَيْمة/ مقطُوعة الثَدْييْن/ إذْ عَبَرت/ أشاحت عن فمي/ ومضت بَعِيدا/ ( ص 75- 76).
فلا المَوْصُوف الشِعْرِيّ مَوْتٌ محض ولا هُو حَياة، وإنّما الّذِي يتبَدَّى للذات الشاعِرَة بِأعلى الشُرفة، في أعلى هواء، مَوْتٌ كأنّه الحَياة أو حياة كأنّها المَوْت، وإنْ إرادَة الحَياة ماثلةٌ بِقُوّة في عَمِيق الذات الراغِبَة في أن تكُون مُتَحَدِّية لِلْخَراب الّذِي حَدَث ويَحْدث، كأن يُسْتعاد بعضٌ مِن الأَمَل بِذاكرة الشاعر الطِفل الّذِي كان، وبِذاكرَة الشَهِيد وبِفائِض حَياة الرغبة، الشهوة، قُوى الجَسَد المُستَنْفَرة إصراراً على الاستمرار في البَقاء.
كُلّ الوُثوقات هُنا، مُهَدّدَةٌ بِاللاّ- يَقِين عَدَا رغبة الشاعر- الإنسان في الحَياة بِفائِض غَيْرِيَّته القَرِيبة آنَ تلاقِي جَسَدَيْن، قَلْبَيْن أو رُوحَيْن أو فكرَيْن بِعَمِيم «العِشق والشهوة والشبق» (ص 109).
فَالمَحَبَّةُ، إذنْ، هِي اليَقِين الوَحِيد تقريباً في تهاوِي الكَثِير مِن الوُثوقات السالِفة والحادِثَة، وإذَا لُغةُ المَحَبَّة شِعْرٌ، ومَوْضُوعُها تواصُل جَسَدَيْن، بل رُوحَيْن، والمَكانُ شُرفةٌ هِي سَكَن الشاعر، كما سَكَنُه القَصِيدة، لِتتماهَى الشُرفة و القَصِيدَة معاً في ذاتِ وُجودٍ واحد مُشترك، يُؤثّثهما في الأثناء مُهْجتانِ وأنفاسٌ لِمُتحابَّيْن، وغيْرِيّة قَرِيبة مُقتدِرة على الذَهاب بَعِيداً في مَدَى اتِّساعها بِالصَداقة (قَصِيدَة إلى رُوح صَدِيقي «فاضل عليّ»).
وبِحَرَكة التِفافِيّةٍ، بِجُوانِيّة الداخل نَفْساً فَرْدِيّة ونَوَاةً لِنفس فرديّة وشُرفة، وغَيْرِيّة فَرْدِيّة وُجوداً فِعْلِيّاً، واستذكاراً وأَلَماً وأَمَلاً وحُزناً وفَرَحاً ضَئِيلاً، ويَقِيناً ولا يَقِيناً، وَغَضباً هادئاً حِيناً، عاصِفاً أحياناً، وانتِظاراً ولا انتِظاراً، يَحْيا الشاعر بـ «شُرفة في الهواء» تجربة وُجود استثنائيّة لم يشهدها مِن قَبل، ومُختَصَرُها، عُزلة اضطِرارِيّة في زَمَن وبائِيّ، وقَلَقٌ حادٌّ ورغبة مُبهَمَة، وقَصِيدَة هِي بِصَدَد التشكُّل تعبيراً عن وقائع وحالات حادِثَة، لعلّها تُواصِل ما ابتدأهُ الشاعر في مجموعته الشِعْرِيّة السابقة: «الشَمْسُ كنسرٍ هَرم» (الصادِرَة عن دار دِيار للنشر والتوزيع 2020)…
إنَّ حُلمَ الشاعِر كما نراه في خاتِمَة هذا القَوْل هُو الّذِي يتجدَّد ولا يتَبَدَّد…
* ناقد تونسي

التاريخ: الثلاثاء13-4-2021

رقم العدد :1041

 

آخر الأخبار
New York Times: إيران هُزمت في سوريا "الجزيرة": نظام الأسد الفاسد.. استخدم إنتاج الكبتاجون لجمع الأموال Anti war: سوريا بحاجة للقمح والوقود.. والعقوبات عائق The national interest: بعد سقوط الأسد.. إعادة نظر بالعقوبات على سوريا بلدية "ضاحية 8 آذار" تستمع لمطالب المواطنين "صحافة بلا قيود".. ندوة لإعداد صحفي المستقبل "الغارديان": بعد رحيل الديكتاتور.. السوريون المنفيون يأملون بمستقبل واعد باحث اقتصادي لـ"الثورة": إلغاء الجمرك ينشط حركة التجارة مساعدات إغاثية لأهالي دمشق من الهلال التركي.. السفير كوراوغلو: سندعم جارتنا سوريا خطوات في "العربية لصناعة الإسمنت" بحلب للعمل بكامل طاقته الإنتاجية الشرع والشيباني يستقبلان في قصر الشعب بدمشق وزير الخارجية البحريني عقاري حلب يباشر تقديم خدماته   ويشغل ١٢ صرافا آلياً في المدينة مسافرون من مطار دمشق الدولي لـ"الثورة": المعاملة جيدة والإجراءات ميسرة تحسن في الخدمات بحي الورود بدمشق.. و"النظافة" تكثف عمليات الترحيل الراضي للثورة: جاهزية فنية ولوجستية كاملة في مطار دمشق الدولي مدير أعلاف القنيطرة لـ"الثورة": دورة علفية إسعافية بمقنن مدعوم التكاتف للنهوض بالوطن.. في بيان لأبناء دير الزور بجديدة عرطوز وغرفة العمليات تثمِّن المبادرة مباركة الدكتور محمد راتب النابلسي والوفد المرافق له للقائد أحمد الشرع بمناسبة انتصار الثورة السورية معتقل محرر من سجون النظام البائد لـ"الثورة": متطوعو الهلال الأحمر في درعا قدموا لي كل الرعاية الصحية وفد من "إدارة العمليات" يلتقي وجهاء مدينة الشيخ مسكين بدرعا