الملحق الثقافي:د.عبد الله عيسى *
يشكّل عنوان ديوان الشاعر الفلسطيني “أحمد دخيل”، “ملحٌ لهذا البحر”، فضاءً أوليّاً لقراءة نصوص شعريّة تأوّل ذاتها بنفسها، في سعيها لخلق عالمٍ يتعدّد في زمنه الشعريّ، عبر تفاعل خصوصيّ بين لغةٍ وخطاب خصوصيين. لغةٌ غنائية طازجة في حركيّتها، في معماريّةٍ لا تتشابه مع سواها سوى لتخرق الماضي الشعريّ المألوف، ولا تنحاز إلى تدوين أدواتها التعبيريّة، إلا لتقيّض لذاتها اجتراح تجاوزات لإنجازات المألوف الشعريّ، وخطابٌ مقترح يبني نيّته التعبيريّة، برؤيةِ من يقبض على جمرة المعرفة، بما هي تصوّرات ناجزة ورؤى محكمة.
لكن، ملح لهذا البحر، لا يعلن قطيعة نهائيّة مع التصوّرات التي حكمت القصيدة الفلسطينية والعربية الحديثة، بل ينطلق مما انتهت إليه في عمليّة انحيازٍ لإنجازاتها الجماليّة والبناء عليها سعياً لتطويرها، كما أنّه لا يُعنى بكسر الرؤى التي جسّدت عملية افتراق هذه القصيدة الحديثة، وحضورها في الذات والمشهد الشعريين، في محاولة للكشف عن رؤاه في حركية نصّه الشعريّ وتأويلاته.
“ملح لهذا البحر” يتعدّد بدلالاته في قصائد الديوان، قبل إحكامها بتدخّل الذات الشعريّة بنيّة تعبيريّة، لا لبس فيها في القصيدة الأخيرة بقولها: “أنا ملح لهذا البحر”.. هنا تتضح الرؤيا، فأنا الشاعر هي ذاتها ملح لهذا البحر، وهذا البحر هو بحر فلسطين الذي عاينه الشاعر أثناء زيارته لوطنه المفقود إلى حين. والملح بالنسبة للبحر، هنا، ليس صفة أو ميزة أو ملمح. إنه أشبه بالدم بالنسبة للإنسان، وبالنسغ بالنسبة للشجرة. وهكذا، تثبت الرؤيا:
أنا ملح لهذا البحر
فهب بحراً بغير الملح .
غير أنّ هجرةَ الذات الشاعرة هذه: أنا، ممثلةً بالملح: روح البحر، إلى هذا البحر: رمز المكان بزمانه الممتدّ منذ اللفظة الأولى للخلق، هجرةُ الزمان/ زمن الشاعر إلى المكان/ الوطن المقيم هناك. في حين أقامت هذه الذات على امتداد قصائد الديوان في أماكن مختلفة/ المخيم بما يحمل من دلالات، وفي حالات كثيرة/ هزائم وانكسارات …الخ، وبهذا تغدو هجرتها هي ذهاب الهُنا إلى هناك، ولقاء الذاكرة/ ذاكرة اللاجئ الّتي ركّبت الوطن المفقود من رواية جيل النكبة المكسورة، بالجسد/ جسد الوطن في لقائه بجسد الذات الشاعرة بما يحمله من ظلال أمكنة ومرايا دروب آلام وصلبان عالية. لكنّه، كان لقاءً مفقوداً أيضاً، طالما يبقى الجسد المهاجر مفقوداً بعيداً عن مكانه الأول التاريخيّ. فالمكان الآخر في هذه الهجرة/ الإقامة في اللجوء، يُفقد الجسد قداسة الأشياء الّتي تدلّ عليها الذاكرة والجسد معاً، وأسفار التاريخ وتجليات المعجزة المقدسة.
هي جدّتي
تهزّ جذع نخلةٍ بلا رطب
تئنّ في مكانها القصيّ .
ولابدّ أن “هذا البحر” تحمَّل التباساً متعمّداً تتشابك فيه رواية الذات الشاعرة، بما تحمله من أمكنة وحيوات تتحرّك في الديوان بأسماء وأوصاف متعددة: الأم الغائبة، الزوجة، الابن (كما يتجلى في الإهداء)، المخيم، الشتات، اللجوء، المجازر، خيانات الأقربين، وطعنات الأبعدين.. الخ، مع سرديّة البحر هذا في الذاكرة. كما تنفتح التأويلات على أسئلة أخرى: هذا البحر الذي خصّته الذات الشاعرة بالخطاب في حضورها الجسديّ في حضرته، هو ذاك البحر حال عودة هذه الذات إلى مكانها الآخر/ المخيّم .
وتتعدّد الأسئلة بإيحاءات وانزياحات الذات التي تكثّف ذوات وعوالم تحملها في ذاتها لتؤرّخ لروايتها: ألم يخن هذا البحر، أو ذاك البحر ملحنا حين جاء بالمحتلّ؟ .
ألم يحمل قناصو العدو ليغتالوا كتّابنا ومبدعينا، الذين شكّلوا وعاء لذاكرتنا الجمعيّة؟.
لكنه يبقى بحرنا نحن ، تماماً مثل ذاك البيت القديم الذي ينتظر عودتنا ، وإن أقام فيه المحتلّ على أسرّتنا . هكذا يصبح البحر هذا ، أو ذاك/ بحرنا شاهداً على نكبتنا في رواية ذاكرتنا ، تماماً كما هو شاهد على هجرة جسدنا من جنتنا الثانية -بيروت .
وفي اشتباك الجسد والذاكرة، يتشكّل خطاب شعري لا يبتعد كثيراً عن تصوّرات ورؤى، محكومة بنبرة اليقين المتعدّد في النص الفلسطينيّ، والمأوِّل لهذا النصّ في أكثر إشراقاته وفعله الوجوديّ:
أجبني لماذا؟
كبرنا على قارعاتِ الطرقْ
بزوادة الذكرياتِ
البكاء، اللجوء، الأرقْ
قمْ حبيبي وارسم لنا في دروب الكنيسة
شمع المساجد
فهذا دمي خذهُ منّي إليكَ
بملءِ الدواةِ
وأخبر صفصافتي في السماء
بأن الشقيّ الذي أرّقته دروبُ المنافي
إلى الروح عائد.
لا يكتفي ديوان ملح لهذا البحر بالاتِّكاء على غنائيّة، أظُنّ أنها وصلت مداها في النصّ الشعريّ الحديث، لاسيما الفلسطينيّ، وتحديداً في التجربة الدرويشيّة، بل يخوض مغامرة نحت نشيد خصوصيّ، يغني التراجيديا أيضاً، ويجعل من التوقيع الصوتيّ في النصّ، مجسداّ بالقافية، توقيعاً معنوياً، يكتمل فيه المبنى والمعنى، أو يشبع به في كثير من الأحيان، كما في المقطع التالي، مثالاً لا حصراً:
رصاص الًعدو يمزّق ورداً
يسنّ القضاء
يخط ّالقدرْ
وشيخ العروبة ما انفك يتلو..
على الأبرياء
قصار السورْ.
وأيضاً :
خذني معكْ
وأعدّ من وحي الزناد قصيدة
كي أسمعكْ
وانهض إلى درب الرجوع
لأتبعكْ.
أيضاً :
جيدك مئذنة للصباح
وسجادتي لصلاة الإياب قبيل الغسقْ
تلوت على الجيد تعويذة
من عيون الأنام
فمنه أعوذ برب الفلقْ
وهكذا تصبح التوقيعات الصوتيّة، دلاليّة كونها تحدّد مغزى الخطاب، ومدار الرؤيا.
لكنّ الديوان يكتب ذاته، بقصائدٍ تقترف مأثرة البناء على منجزات النصّ الشعري السرديّ، كما في قصيدة ملح لهذا البحر، مثالاً لا حصراً، كما أنه – أي الديوان – يحتفظ لنفسه بقابليّة الانطلاق من أهم انزياحات الشعر، كالتناص، والغموض، وسواها، إضافة إلى الكثافة، مثلاً :
هذا أنا
ودمي قرابين لكم .
وكذلك:
هذا النبيذ المرُّ يخترق الدخان
وكذلك:
كلهم عاشوا وصمتي مات حيا.
وكذلك :
وشمعتان أضاء ظلهما البكاء
ملح لهذا البحر ديوان يشكل إضافة لتجربة الشاعر أحمد دخيل، ويتيح إمكانية قراءة جادة للقصيدة الفلسطينية، لاسيما الغنائية منها بنيّتها التعبيرية وخطابها المتعدد المختلف.
*شاعر وأكاديمي فلسطيني
التاريخ: الثلاثاء13-4-2021
رقم العدد :1041