الملحق الثقافي:هفاف ميهوب :
يرى عالم الاجتماع البولندي «زيغمونت باومان» بأن وسائل التواصل الالكتروني، عبارة عن فخٍّ لإنسان العصر الحديث، وبأنه ينقاد إليها بإرادته، وبأن مؤسّس شركة الفيسبوك، يدرك مقدار خوف هذا الإنسان من الوحدة، لذا أوجد له عالمٌ لا مكان فيه لها..
لاشك أنها التحولات التي مهَّدت لانتقالِ كلِّ شيء في العالم، من الصلابة إلى السيولة، من مشروع التنوير ومركزية الإنسان، وعقلنته في اختيار مصلحته، وصنع ثقافته وحضارته، إلى فرديته وتسليعه، وتزييف وعيه، وشيطنة الوسائل المهيمنة على وجوده..
إنه ما بنى «باومان» رؤيته عليه، في سلسلة كتبه «الحداثة السائلة» و»الحياة السائلة» و «الحب السائل» و «الأزمنة السائلة» والمراقبة السائلة» و «الخوف السائل» و»الشَّر السائل» و «الثقافة السائلة».
نعم.. «الثقافة السائلة»، وهو عنوان الكتاب، الذي اخترنا البحث في فصوله التي كان أولها:
«عن الجولاتِ التاريخيَّة لمفهوم الثقافة»
يذكر «باومان» هنا، بأن النتائج التي توصَّل إليها عالم الاجتماع بجامعة أكسفورد «جون جولدثورب»، وفريقه المكوّن من ثلاثة عشر باحثاً، أكدت صعوبة تمييز النخبة الثقافية، وفق السمات القديمة التي منها: «الحضور المنظم للأوبرا، الحفلات الموسيقية، الحماسة لكلّ فنٍّ راقٍ»، مع عدم التعميم لطالما، لا يعني هذا عدم وجود من يراهم المجتمع نخبة، أو هكذا يرون أنفسهم، أو كما لخّص عالم الاجتماع الأميركي «ريتشارد بيترسون» تحولاتهم، على مدى عشرين عاماً من البحث الذي وجد فيه أنهم: «أصحاب الثقافة الرفيعة، الذين يحتقرون في غرور، كلّ الثقافة الوضيعة، أو السوقية، أو الشعبية، وأصحاب الثقافة الذين يستهلكون في شرهٍ، نطاقاً واسعاً من الأشغال الفنية الشعبية والراقية»، منوّهاً بأنَّ: «النخبة الثقافية مازالت حيّة، بل هي اليوم أنشط وأكثر حماسة، لكنها مهمومة جداً بتعقّب النجاحات الكبيرة، وغيرها من الأحداث الثقافية، حتى أنها تعجز عن توفير الوقت اللازم لرسمِ طريقها، أو هداية غيرها إليه..»…
لم يكتفِ «باومان» بهذا الرأي، بل استدعى آراء عديدة لعلماءِ نفس وكتّاب وشعراء وباحثين، منهم الشاعر والمسرحي والروائي الانكليزي «أوسكار وايلد» الذي كان شكل الثقافة لديه، وقبل قرنٍ من الزمن:
«الصفوة التي لا تعني لها الأشكال الجميلة إلا الجمال، النخبة المختارة، المتغنّون بمجد القيم التي يعتنقونها.. إنهم حتماً سيجدون المعاني الجميلة في الجمال، ولأنهم من يقرر ماهيّة الجمال، بل ويتفرّدون بتقرير مكان البحث عنه.. «في الأوبرا، لا قاعات الموسيقا الترفيهية، ولا أمام دكاكين السوق.. في صالات العرض، لا في المطبوعات الرخيصة التي تزيّن بيوت الفلاحين أو الطبقة العاملة.. في المجلّدات المجلّدة بالجلد الطبيعي، لافي مطبوعات الصحف أو الإصدارات الرخيصة، فالصفوة المختارة ليست مختارة بسبب رؤيتها الثاقبة فيما هو جميل، بل لأن عبارة «هذا جميل»، جملة تقريرية ملزِمة، والصفوة قالتها بأفواهها، وأكدتها بأفعالها»..
استدعى «باومان» أيضاً، اعتقاد عالم النفس الألماني «سيغموند فرويد»: «لا جدوى من بحث المعرفة الجمالية عن جوهر الجمال وطبيعته أو مصادره، أو حتى صفاته الكامنة، فليس للجمال استخدام واضح، وليست له أيّة ضرورة ثقافية، ولكن الحضارة لا تستطيع أن تستغني عنه».
«عن الموضة والهوية السائلة ويوتوبيا العصر»
في هذا الفصل، يشرح «باومان» العلاقة ما بين الموضة والثقافة، في عصر الحداثة السائلة، معتبراً أن الموضة هي إحدى عجلات الطيران الأساسية للتقدّم، أو بالأحرى للتغيّر الذي يقلل من شأن، ويُنزل من قدر، ويحطُّ من قيمة كلّ شيءٍ يتركه وراءه، ويحلُّ محلّه شيئاً جديداً.
أيضاً، يدعو الباحثين عن ذواتهم، للاستمرارِ في البحثِ عنها، لأن في ذلك متعة لا تتحقّق بالعثور على الذات الحقيقية أبداً، فالحلم بنزع قدرة اللايقين على إشعارنا بالعجز، وتحويل السعادة إلى حالة دائمة، بتغيير متواصل دائم للأنا، بتغيير أثوابها، وهو التجسد الحقيقي ليوتوبيا اليوم، التي تلائم ما أسماه «مجتمع أهل الصيد»، الذي حل محل «مجتمع أهل البستنة» الذين كانوا أبطال عصر الحداثة الصلبة.
يسأل هنا: «هل هذه هي نهاية اليوتوبيا؟!.. ليجيب: «نعم هي نهاية اليوتوبيا إذا قصدنا الفكر اليوتوبي الحداثي المبكّر.. لكن، من منطلق الوضع الحالي، فنحن نعيش بالفعل عصر اليوتوبيا الاستهلاكية، التي تعد بجائزة بعيدة المنال، وعدت بها اليوتوبيات الأخرى، إنها تعدُ بحلٍّ نهائيٍّ وجذريٍّ للمشكلات البشرية، في الماضي والحاضر والمستقبل، وبعلاجٍ جذريٍّ ونهائيٍّ لأحزان الوضع الإنساني وأوجاعه. إنها يوتوبيا عجيبة وغريبة.. إنها يوتوبيا نقلت أرض الحلول والعلاجات من «هنالك وبعد حين» إلى «هنا والآن».. إنها يوتوبيا الحداثة السائلة، لا تمنح معنى للحياة، وسواء أصيلاً أم زائفاً، فهي تساعد فقط، على نفي الأسئلة المتعلقة بالحياة التي حولت رحلتها، إلى سلسلةٍ لانهائية من الهموم المتمركزة حول الذات»..
«الثقافةُ في عالمِ الشّتات»
قبل الخوض في هذا الموضوع، يشرح «باومان»، مفهومه للثقافة وتشكّلها ورسالتها ومهامها التي صاغها فلاسفة التنوير لخلق إنسانٍ جديد، مجهّز بمعايير بسيطة ومرنة، مشيراً إلى أن «العائق أمام هذا الخلق، هو قواعد الحياة المترسخة في تقاليدٍ، حوّلت هذه القواعد إلى خرافات وأساطير، فشكّلت عبئاً في طريق التقدّم البشري، الذي كان من الضروري، وقبل المضي فيه، تحرير الناس من أغلال الخرافات والمعتقدات البالية، عبر التعليم والاصلاح الاجتماعي، وفق معايير العقل والتخطيط العقلاني».
يبيّن أيضاً، المهام التي أُسندت للطبقات المتعلّمة ومنها، الإسهام في التحدّي الذي وضعه المشرّعون، أي ابتكار نظام اجتماعي جديد، وتنظيم المجتمع.
رويدا ًرويداً، يُدخلنا إلى العصر الحديث، أو كما أسماه، «عصر فكِّ الارتباط، والاستسلام لأنماط جديدة، في مجتمعٍ رأى بأن «لا خلاص بعد اليوم على يده»، وهي عبرة استعارها من قائلها، السوسيولوجي الفرنسي «بيير بورديو».
بهذه العبارة البليغة والموجزة، لخّص «باومان» مبادئ العصر الجديد، في الطور السائل من أطوار الرأسمالية، فكلّ فردٍ يضفي على حجّته شكلاً متّسقاً مع إرادته، ثم عليه أن يرهن جدارتها، ويحميها من المدافعين عن غيرها من الحجج.
باختصار، ما أراد الكاتب قوله، هو أن الناس جميعهم يتطلّعون، ورغم كل التحولات والتطورات التي شهدتها الثقافة، مذّ كانت صلبة، وصولاً إلى ما باتت عليه في زمنِ العولمة التي حولتها إلى سائلة:
«يتطلّع الناس اليوم، إلى شعورٍ بالجماعة، في الأمل الواهي بأنها ستمنحهم، ملاذاً من التيار المتصاعد، الذي يمثّله الاضطراب العولمي، لكن، ذلك التيار، يأتي من أماكن بعيدة جداً، ولا تقدر أي قوى محلّية، على التنبُّؤ به، أو التحكُّم بقوته، ولاسيما في مجتمعاتٍ تفرض النزعة الفردية وتخضع لها، ويضرب اللايقين الإنساني بجذور راسخة، في هوّةٍ سحيقة، بين حال الفردية الصورية، والضغوط الدافعة لتحقيق الفردية العقلية، وكلّما انخرطت الأطراف في تحقيق الصدامات المستقبلية في ساحة المعركة متعدّدة الثقافات، تحوّلت إلى هدفٍ أسهل، وأكثر ربحاً لقوى العولمة، وهي القوة الوحيدة القادرة، على الاستفادة من إخفاق البناء الشاق للجماعة الإنسانية، وإخفاق التحكّم الإنساني المشترك، في وضع الجماعة الإنسانية والظروف المحيطة».
التاريخ: الثلاثاء13-4-2021
رقم العدد :1041