سوريّة والعالم يقترعان: تلازم الديمقراطيّة والعلمنة

الملحق الثقافي: د.دريد عوده 

الناسُ العاديون ينتخبون الأشخاص،
المفكّرون ينتخبون الرؤى والأفكار..
إذا كانت الديمقراطية هي حكم الشعب، فإنَّ الاقتراع العام هو الآلية التي من خلالها ينتدب الشعب من يمثِّله لإدارة شؤونه، بمعنى أن الانتخاب هو تفويض حرّ من قبلِ الشعب لحكّامه لتحقيق الخير العام. إلّا أن هذا التبسيط لمفهوم الديمقراطية لا يفي بأغراضها ومراميها، إذ لا يمكن فصل الديمقراطية عن شروطها المتمثّلة بالحرية والمساواة، كما لا يمكن فصلها عمّا أسمّيه الهوية الحضارية للدولة، ووظيفتها التاريخية للارتقاء بالجماعة القومية وبالاجتماع البشري ككلّ.
فأين تقع الانتخابات في سورية من هذا كلّه؟ وما دورها في إنتاج أو إعادة تظهير الهوية الحضارية للجماعة السورية، ودورها التاريخي في العالم؟ ولا أقصد هنا فقط علاقات القوة أي موازين القوى في العالم، بقدر ما أعني فلسفة التاريخ، أي مسار الاجتماع البشري وصيرورته، وارتقائه الفكري والروحي والنفسي – ليس شكل العالم بل غاياته الحضارية والأخلاقية.
تلازم الديمقراطية والعلمنة
يقول مونتسكيو إن “الملكية تتقهقر عادةً نحو استبداد الفرد الواحد، والأرستقراطية نحو استبداد القلّة، والديمقراطية نحو استبداد الشعب” (أي طغيان الأكثرية). ويقول أيضاً إن “حب الديمقراطية هو حب المساواة”. وأضيف إن حب الديمقراطية هو حب العدالة، أي حكم الجدارة والاستحقاق، وليس المساواة العمياء: حكم النخبة الحضارية لا الدهماء.
إذاً للديمقراطية شروط لِئلّا تتحوّل إلى دكتاتورية مقنَّعة، وفي مقدمة هذه الشروط الحرية والمساواة، بحيث لا تكون الديمقراطية فقط عملية قَبَلية وقَبْلية لتفقيس حكّام جدد، بقدر ما تكون رافعة تأسيس مجتمع هو كناية عن مجموع أفراد أحرار، وتالياً رافعة تشكيل دولة تصون هذا المجتمع بحقوقه الفردية الطبيعية، غير القابلة للنقض والمراجعة: الحق بالحياة، بالحرية ونشدان السعادة.
أي إن وظيفة الديمقراطيّة، بناء وتحقيق الدولة بمعناها الحداثي الحقوقي الواسع: دولة تقوم على مبدأ المساواة المطلقة في المواطنية حقوقاً وواجبات؛ “مواطنية” فوق دينيّة، فوق إثنية، فوق طبقية، فوق إقليمية، فوق قَبَلية، فوق جندرية. دولة تكفل الحريات الفردية والجماعية في المعتقد والتعبير والملكية. دولة تكفل بل تدافع عن تعددية المجتمع الدينية والإثنية والثقافية. دولة ليست دولة طغيان الأقليات أو الأكثريات العددية الحاكمة، بل دولة المواطن التي يحكمها القانون، وتديرها المؤسّسات بوصفها كيانات دستورية موضوعية عقلانية، مهمتها صيانة حقوق المواطنين، وتحقيق العدالة والخير العام.
وهكذا فإن الديمقراطية ليست صناديق اقتراعٍ عمياء، تنتج طغيان أكثريات على اختلاف تلاوينها الدينية والطبقية والإثنية، بل هي مسار مجتمعي – دولتي (من دولة) أقنوماه الحرية والمساواة. أي إن لها وظيفتين أساسيتين متوازيتين: بناء المجتمع المدني التعدّدي وبناء دولة تحفظ هذا المجتمع. هذا فضلاً عن مهمتها في تحقيق العدالة الاجتماعية: فالديمقراطية السياسيّة جوهرها الديمقراطية الاجتماعية، بمعنى التوزيع العادل للثروة الوطنية من خلال التنمية الاقتصادية والبشرية المستدامة.
حسناً، ما السبيل لإنجاح هذه المهمة أو الغاية المجتمعية – الدولتية للديمقراطية؟.. العلمنة ثم العلمنة ثم العلمنة.
يُجمِع علماء السياسة والاجتماع على تعريف العلمانية بأنها فصل الدين عن الدولة.
حسناً، لكنني أضيف تعريفاً أكثر احترافية ودقّة للعلمنة: العلمانية كما أعرِّفها هي بناء دولة وضعية عقلانية موضوعية Objective لا تحرِّكها الذاتيات الفئوية، الدينية أو الطائفية أو المناطقية أو الطبقية أو الجندرية أو الفردية؛ هي بناء دولة على مسافة واحدة من الجميع، أفراداً وجماعات؛ هي بناء دولة يتنازل فيها الجميع من دون استثناءٍ عن إسقاط نزعاتهم الميتافيزيقية الخلاصية وعقائدهم الأبوكاليبسية الايشاتولوجية الآخروية (نهاية العالم) الخاصة، وكذلك التنازل عن إسقاط إيديولوجياتهم التاريخانية الفئوية (وهي أديان وضعية خلاصية بدورها) على الشأن العام.
إن دولة الحداثة هي الدولة العلمانية بوصفها مؤسسة مجتمع مواطنين أفراد متساوين مساواة مطلقة، لا رجعة عنها أمام القانون الوضعي الشامل، المطبَّق على الجميع من دون استثناء: الدولة العلمانية هي مؤسسة المجتمع المدني التعددي.
خلاصة القول: إن وظيفة الديمقراطية الحقيقية إقامة دولة القانون ومجتمع الحقوق والحريات، وهذا لا يمكن أن يتم إلّا بالعَلمانية أي مأسَسة (من مؤسسات) النزعة العقلية في السياسة بما هي فن إدارة الشأن العام، وتحقيق الرفاه الاجتماعي والخير العام: الحرية روح الديمقراطية، والعلمانية عقلها.
وتبقى الوظيفة الحضارية للديمقراطية، الحفاظ على روح الجماعة التاريخية الأصلية، والشخصية الثقافية الكبرى للأمة، بحيث لا تتغير القيم الحضارية والثقافة السياسية للجماعة، ودستور حياتها وأساليب عيشها بتغيّر الحكّام: لا تتغيّر طبيعة الدساتير بتغيّر الحكومات، وبالتالي فإن مهمة الديمقراطية (الدستورية) صيانة الشخصية الحضارية للجماعة القومية التاريخية وجوهر اجتماعها الحضري التعدّدي المؤطّر في الدستور، بمعنى أن تكون الديمقراطية صمّام أمان التنوع ضمن الوحدة، التنوع المجتمعي البديهي ضمن وحدة الجماعة القومية الطبيعية.
سوريّة تقترع… والعالم أيضاً
ليس من المبالغة القول إن سورية تقترع، ومعها يقترع العالم بأسره. ليس هذا بسبب محورية سوريّة في العالم العربي و«الشرق الأوسط» عموماً، وهذا سبب كافٍ لاهتمام العالم بانتخاباتها الرئاسية، بل لأن عالماً متعدِّد الأقطاب خرج من رحم الحرب في سورية، وعلى حساب نظام القطب الواحد الذي نشأ بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية.
أكاد أقول إن “القرن الأميركي الجديد” الذي نَظَّر له أخيراً أباطرة العقل الأنغلوساكسوني دُفِن تحت الركام، في دمشق وحلب وحمص وغيرها من القلاع السورية، وها أحفاد الإمبراطورة كاثرين الثانية يحملون “مفتاح بيتها في دمشق” أي الحلم القيصري التاريخي، للوصول إلى مياه المتوسط الذي لم يتحقق حتى في ذروة الإمبراطورية السوفييتية الحمراء. ناهيك عن توثّب التنين الأصفر بطرقِ حريره، لوراثة التركة الأميركية في الشرق الأوسط، بعد ابتلاعه الهادئ للقارة السمراء.
بيد أن المسألة بالنسبة لنا نحن المفكرين، فلاسفة الحضارة والتاريخ، تتعدّى الجيوبوليتيك إلى الميتافيزيك إذا صحَّ التعبير: لقد شكَّل انتصار سورية الدولة والشعب، نهاية الردّة الدينية الظلامية بمختلف تلاوينها، الداعشية والنصروية والإخوانية، ومعها طُمِرت في الغوطة وتدمر وصيدنايا ومعلولا الخلافة النيوعثمانية؛ طُمِرَت حركة تتريكٍ جديدة بطربوشٍ إخواني.
سيسجّل تاريخ الفكر البشريّ، أن انتصار سورية الحضارة على تلك الردّة الأصولية، هو الذي منع دخول العالم العربي والشرق عموماً في “قرسطية” (قرون وسطى) ظلامية في القرنِ الواحد والعشرين: إن النيران الداعشية في الحواضر السورية (لو قُدِّر لها أن تأتي أُكُلَها) شبيهة بحرق مكتبة قرطبة في الأندلس، الذي أدخل الغرب في العصور المظلمة، وحرق مكتبة الإسكندرية القديمة ومكتبة بغداد، الذي أدخل الشرق في عصور ظلامية لمّا تنتهِ بعد حتى يومنا هذا.
على الانتخابات في سورية، أن تُظهِّر هذين المشهدين العالميين الجيوبوليتيكي والحضاري: مشهد جيوبوليتيك عالم متعدِّد الأقطاب يُصفّي تركة “العم سام” المريض وعقله، بل خَرَفه الاستعماري المتهالك، ومشهدٌ حضاري عقلاني يُصَفّي تركة “الرجل المريض” وعقله، بل خَرَفه الأصولي الديني المتهافت.
وعلى هذه الانتخابات أن تُظَهِّر أيضاً وأيضاً، سورية المتجدِّدة في دولتها العلمانية حافظة التنوّع المجتمعي، ضمن وحدة الجماعة الوطنية السورية وشخصيتها المشرقية الحضارية، هذا في المشهد الداخلي؛ وفي المشهد العربي الأوسع، سورية المتجدِّدة من خلال صياغة المشروع الحضاري العربي الجديد – مشروع ربيع العقل العربيّ، مكان خريف العقل العربيّ البائد.
هذا هو مرشّح مشروع المفكّر الحرّ الملتزم بقضايا الحضارة والوطن والإنسان، مشروع تشبيكِ هذه الأضلع الخمسة: الدولة العلمانية في شقَّيها الحرية والمساواة، المشروع الحضاري العربي الجديد، عالم متعدد الأقطاب…
إنّي أقترع.
 د.مفكر لبناني مقيم في نيويورك

التاريخ: الثلاثاء25-5-2021

رقم العدد :1047

 

آخر الأخبار
أهالي ضاحية يوسف العظمة يطالبون بحلّ عاجل لانقطاع المياه المستمر الشرع يبحث مع علييف في باكو آفاق التعاون الثنائي حافلات لنقل طلاب الثانوية في ضاحية 8 آذار إلى مراكز الامتحان عودة ضخ المياه إلى غدير البستان بريف القنيطرة النقيب المنشق يحلّق بالماء لا بالنار.. محمد الحسن يعود لحماية جبال اللاذقية دمشق وباكو.. شراكات استراتيجية ترسم معالم طريق التعافي والنهوض "صندوق مساعدات سوريا" يخصص 500 ألف دولار دعماً طارئاً لإخماد حرائق ريف اللاذقية تعزيز الاستقرار الأمني بدرعا والتواصل مع المجتمع المحلي دمشق وباكو تعلنان اتفاقاً جديداً لتوريد الغاز الطبيعي إلى سوريا مبادرات إغاثية من درعا للمتضررين من حرائق غابات الساحل أردوغان يلوّح بمرحلة جديدة في العلاقة مع دمشق.. نهاية الإرهاب تفتح أبواب الاستقرار عبر مطار حلب.. طائرات ومروحيات ومعدات ثقيلة من قطر لإخماد حرائق اللاذقية عامر ديب لـ"الثورة": تعديلات قانون الاستثمار محطة مفصلية في مسار الاقتصاد   130 فرصة عمل و470 تدريباً لذوي الإعاقة في ملتقى فرص العمل بدمشق مساعدات إغاثية تصل إلى 1317 عائلة متضررة في ريف اللاذقية" عطل طارئ يقطع الكهرباء عن درعا تمويل طارئ للدفاع المدني السوري لمواجهة حرائق الغابات بريف اللاذقية إغلاق مؤقت لمعبر كسب الحدودي بسبب الحرائق في ريف اللاذقية محافظ حلب يتابع انطلاق امتحانات الثانوية كبار في السن يتقدمون لامتحانات الثانوية العامة بدرعا