الثورة أون لاين – علي الأحمد:
تدين موسيقانا العربية بالكثير لهذا العّلامة الكبير، الذي قدم إرثاً مهماً وعطاءات موسيقية كان لها إسهامها في إغناء البحث الموسيقي العربي، إضافة إلى جهوده الكبيرة، في التأليف والعزف والتدريس الأكاديمي، حيث ارتحل إلى كثير من البلدان، بغية التعرف عن كثب على التجارب الموسيقية المتقدمة، انطلاقاً من مدينته حلب، الذي نال قسطاً وافراً فيها من العلوم الموسيقية على يد كبار الأساتذة والملحنين، لينطلق برحلته الموسيقية إلى تلك المدن التي أغنت وجدانه وأمدت ذاكرته الموسيقية بإبداعات غنية، كان لها تأثيرها العميق على شخصية هذا المبدع الكبير، الذي قدم كما سنرى خدمات جليلة ومهمة للموسيقا العربية.
ولد الشيخ “علي الدرويش” في حلب عام ١٨٨٤ م، وكان للبيئة التي نشأ فيها، الأثر المهم في تشكيل ورسم ملامح شخصيته الفنية، حيث كان للتكية المولوية دور لا يستهان به في تتلمذه على يد أساتذة كبار، حيث التقى بالعازف التركي الشهير “عثمان بك” وعازف الناي القدير ” شرف الدين بك” الذي أخذ منه أصول العزف على آلة الناي بشكل علمي، وهو ما وضعه في تحدٍ صعب من البحث الدؤوب كي تكتمل علومه الموسيقية المتقدمة، وكان له ما أراد بعد رحلة طويلة وتنقل وارتحال لم ينقطع كما أسلفنا في كثير من البلدان، إضافة إلى تتلمذه على يد مشايخ وأساتذة هذا الفن أمثال ” أحمد عقيل، صالح الجذبة، ومحمد جنيد” وآخرين، وهو ما أعطى ثماره اليانعة مبكراً، حيث أشرف على جماعة المنشدين في التكية المولوية التي لها أتباع ومريدون، في كل الأقطار الإسلامية، وكانت هذه نقطة البداية، فلم يكتفِ بما وصل اليه، فعاود البحث والقراءات المتعددة لهذا الفن، إلى أن بدأ بجمع وتصنيف العديد من المصادر الموسيقية بالعربية والتركية، وقام بدراستها دراسة علمية منهجية، وكتب تعليقات قيّمة عليها، أفادته في رحلاته التدريسية المتعاقبة إلى “طهران، بومباي، البصرة، بغداد، مصر، تونس، وغيرها من بلدان، تعرف من خلالها على تقاليدها وخزينها المعرفي وأنماطها الموسيقية الموغلة في التاريخ.
تقدم الشيخ علي الدرويش، إلى مسابقة انتقاء مدرسين للموسيقا عبر وزارة المعارف التركية، فتم تعيينه مدرساً في ولاية” قسطموني” ومن هناك انتسب إلى معهد “دار الألحان” الشهير في اسطنبول حيث نهل العلم الأكاديمي على يد أساتذة كبار أمثال العلّامة الشهير “رؤوف يكتابك” الذي شارك برفقة الشيخ علي، في فعاليات المؤتمر التأسيسي للموسيقا العربية الذي انعقد في القاهرة عام ١٩٣٢م، والعازف القدير “اسماعيل حقي، والعازف الشهير “علي صلاحي، وغيرهم ما منحه إمكانات موسيقية عظيمة أهلّته لأن يؤسس لاحقاً فرقة موسيقية عمادها آلات النفخ الخشبية والنحاسية، قدمت أعمالاً موسيقية بروح أكاديمية بعيداً عن التطريب الذي كان سائداً آنذاك، وعاد إلى حلب عام ١٩٢٣ ليساهم فيها بنشاطات موسيقية مهمة حيث أسس فرقة موسيقية من خيرة العازفين المهرة، قدم من خلالها، مجموعة من الأعمال الموسيقية والغنائية اللافتة، جاب بها العديد من المدن السورية، كما عاد بها إلى تركيا وقدم هناك مجموعة من الأمسيات التي لاقت كل التقدير من النقاد والجمهور الذي كان يعرفه جيداً، كمثال للفنان الأصيل، والإنسان الكبير الذي يمتلك روح المبادرة والتفاني ودماثة الأخلاق.
ولعل أهم محطة في حياة هذا الفنان القدير، كانت في دعوته إلى معهد الموسيقا الشرقية في القاهرة، حيث استقبل استقبالاً كبيراً، يليق بقاماته ومكانته العلمية، حيث تم تكليفه من قبل إدارة المعهد بتدريس آلة الناي، وفق المنهج “الميتود” الجديد الذي كتبه بنفسه، وهناك تعرّف على أعلام كبار في الموسيقا والغناء “رياض السنباطي، محمد عبد الوهاب، أم كلثوم، وعازف الناي الشهير عزيز صادق وغيرهم، كما تعرف أيضاً على المستشرق الشهير” البارون دير لنجيه، حيث قامت بينهما صداقة طويلة، أثمرت أبحاثاً قيمة في الموسيقا العربية بعد أن سافرا معاً أواخر عام ١٩٣١ م، إلى تونس حيث كان يقيم هذا المستشرق الكبير وفي مكتبته الموسيقية الغنية تعرّف الشيخ علي على كنوز ومخطوطات موسيقية مهمة، ومن ثم تلقى دعوة رسمية من مؤتمر الموسيقا العربية الأول، حيث تم تكليفه بالعمل مع مجموعة من الباحثين والعلماء في دراسة المقامات والإيقاعات، فكان أن قدم بحوثاً غير مسبوقة في دراسة هاتين المنظومتين اللتين تتمتعان بثراء مقامي وإيقاعي لا حدود له. وبعد انتهاء المؤتمر عاد الشيخ علي إلى تونس برفقة صديقه “ديرلنجيه” حيث تم تكليفه رسمياً من قبل وزارة المعارف التونسية بالتدريس في المعهد الرشيدي بقي هناك حوالي سبع سنوات قضاها في البحث والعزف والتأليف وكان من أشهر تلامذته الباحث الدكتور “صالح المهدي” الرئيس الفخري للمجمع العربي للموسيقا، وصاحب الأيادي البيضاء على الموسيقا العربية.22:06
وهناك أيضاً جمع الشيخ علي ما يقارب الأربع عشرة نوبة أندلسية، مع عشرين ملحقاً لها، ومجموعة كبيرة من الموشحات أثرت المكتبة الموسيقية، ومن ثم يعود إلى مدينته حلب، ليؤسس هناك نادي حلب للموسيقا، شاركه العمل فيه مجموعة مهمة من الأعلام الكبار أمثال “الباحث القدير مجدي العقيلي، والفنان ممدوح الجابري وغيرهما، كما تم تعيينه في عام ١٩٤٢م، عميداً ومدرساً للقسم الشرقي في المعهد الموسيقي بدمشق، وبقي فيه سنوات، إلى أن تلقى دعوة من معهد الفنون الجميلة في بغداد، وهناك تعرف على الشريف محي الدين حيدر، مؤسس المعهد وصاحب مدرسة بغداد في العود، حيث قدما خبرتهما المديدة في رفد هذا المعهد المهم، بعلوم وتقنيات متقدمة في العزف والتأليف وبعدها عاد إلى حلب من جديد وأسس رفقة الباحث الدكتور فؤاد رجائي معهد حلب للموسيقا وكان من بين أساتذته المرموقين الوشاح القدير الشيخ عمر البطش وأبناء الشيخ علي، ابراهيم ونديم الدرويش.
قدم الشيخ علي، مجموعة من التسجيلات المهمة، حوت مجموعة من الموشحات القديمة والأدوار والبشارف والسماعيات وغيرها، وتوج هذه المسيرة الإبداعية المعطاءة، بعمله المهم والقيم، حول علم القراءة الموسيقية، في ستة أجزاء، كما لا ننسى دوره المهم في تدوين وتسجيل فاصل اسق العطاش وأعمال للشيخ أحمد أبو خليل القباني، سجلها في إذاعة دمشق، وغيرها من إسهامات عظيمة لمبدع كبير قل أن يجود الزمان بمثله، العلامة الكبير الشيخ علي الدرويش الحلبي، الذي نثر إبداعه في ذاكرة وتاريخ هذا الفن المعاصر، ورحل في السادس والعشرين من تشرين الثاني عام ١٩٥٢م، لتطوى صفحة خالدة في تاريخ موسيقانا العربية المعاصرة التي تفتقده وأمثاله بكل تأكيد ، وخاصة في عصر نضوب الإبداع وانطفاء جذوة الفنون ورسالتها الخالدة في الحياة .