الملحق الثقافي:وجيه حسن:
في مجتمعنا العربي، وفي أوساطنا الاجتماعية بعامّة، قد يخطر على أذهانِ كثرة كاثرة منّا، خاطرٌ أزرق مُفادُه: أنّ الكاتب أو الأديب في بلدنا، يتقاضى عن المادّة الأدبيّة أو الفكريّة – التي ينشرها في هاتِهِ المجلة، أو تلك الصحيفة – مبلغاً محترماً من المال، يوازي أو يعادل الجهد الذي يبذله، أو قيمة ما يصرفه من ثمنِ كهرباء، وانحناءاتٍ في الظهر، وإعمالٍ للفكر، وصرفٍ للوقت، وهو جالسٌ إلى مكتبهِ أو إلى حاسوبِه «الكمبيوتر»، يهندس مادّته الأدبيّة بعد تكوينها وكتابتها، ينقّحها يغربلها يدقّقها، قبل أن يدفع بها إلى رئيس التحرير، أو مدير التحرير، أو إلى هيئة التحرير قصْد النّشر، ومن ثمّ لا بدّ – إذا نُشِرت – أن تصل إلى قرّائه/ قارئاته الذين – من الواجب الأدبي والخلقي، أنْ يحترمهم في ما يكتب أيّما احترام، ويقدّر أوقاتهم وعقولهم وصبرهم، هذا هو المفروض والمتوقّع والمأمول..
ويظنّ كثيرون على وهْمٍ وخيبةٍ وانكسار، أنّ الكاتب/ الأديب، يتقاضى على عمله الإبداعي الذي ينتجه حفنة محرزة من النقود، أو أنه فعلاً لا ادّعاءً، يسبح في بحبوحةٍ من العيش من وراء الكتابة، مثله مثل الذين يشتغلون في واحد من ميادينِ، الدراما والتمثيل والسينما والإخراج والتّلحين والغناء والإنتاج إلخ، وهؤلاء في الواقع متفوّقون على كثيرين ممّن يشتغلون بواحدٍ من «الفنون الجميلة»، من رسمٍ ونحتٍ وتصويرٍ وموسيقا وشعر وقصة ورواية ومسرح إلخ، مع العلم والتّذكير والتأكيد، أنّ المشتغلين بواحدٍ من هذه الفنون الأخيرة، كذلك لكلٍّ منهم بصمته وتأثيره الأدبيّ والمعنويّ والإنسانيّ في المجتمع، بحيث يثبّت ويرسّخ – اللهمّ إذا كان شخصاً صادقاً – في وجدان وعقل وضمير المشاهد أو المستمع أو القارئ، بصماتٍ لا تُمحَى، وقد يغيّر الكثير من الأفكار والتوجّهات والرّؤى والذّهنيات، خاصّة إذا ما كان هذا المبدع الخلّاق متمكّناً من حرفته «صَنْعَتِه»، مخلصاً في أدائها، ذا ضمير حيّ متيقظ، على أحسن ما يكون التمكّن والأداء والإخلاص واليقظة..
نعم نعم.. يخطئُ كثيرٌ من خلق الله وعباده في مجتمعنا، حين يظنّون «وبعضُ الظنّ إثم»، أنّ الكاتب المبدع، أو المُشتغل بواحدٍ من «الفنون الجميلة»، يستطيع بعمله وإنتاجه، كَنْزَ المال وتهرِيمَه وجمْعَه، لقناعتهم السطحيّة وسذاجة تفكيرهم، أنّ أمثال هؤلاء المبدعين المُنتجين، الذين يصرفون جلّ أوقاتهم، وزهرة حياتهم، وريّق عمرهم في أعمال جليلة، تعود على أبناء مجتمعهم من الجنسين بالفائدة المرجوّة، والإثمار المنتظر، والتأثير المُجدِي، إنّما يتربّحون من حصائل أعمالهم ونِتاجاتهم وإبداعاتهم، مثلهم في ذلك مثل التاجر المُحنّك، الذي يكنز الأموال ويجمعها من الزّبائن إنْ حلالاً وإن غير حلال، أو من حصائل مجهود العمال الذين يعملون تحت إمرته وسطوته، ولا ينتابهم من تلك الحصيلة المالية في نهاية الأسبوع، أو في ختام الشهر سوى النّزر اليسير من النقود، لا يعادل بحالٍ من الأحوال كِفَّة المتاعب والمشقات التي تحمّلوها، وقيمة العرق المُتصبّب من جباههم الشمّاء، وهم يرومون من وراء ذلك، تأمين لقمة العيش النظيفة لفلذاتِ الأكباد، ولتربيتهم وتعليمهم، أو في أحسنِ الأحوال، دفْعَهم لتعلّم واحدة من الحرفِ والمهن التي يكون من ورائها التربّح الماديّ الحقيقيّ، كمهنة النجارة، وكهرباء السيارات، ومهنة الميكانيك، والحدادة الإفرنجية، وتفصيل الألمنيوم، وما شابه، وقديماً قالوا: «مهنةٌ في اليد أمانٌ من الفقر»!..
عَودٌ على بدء.. فإنَّ المبدعين في الميادين الأدبيّة والفكريّة والفنيّة كافّة، نادراً ما نقع على واحد منهم، قد تربّح الكثير من عمله الإبداعي أو الكتابي..
ولا يفوتني لفْت الانتباه في هذا السّياق: إلى أنّ شاعراً حداثوياً، قد انوجد على الساحة الأدبيّة على حين غرّة، من دون أن يطّلع على شِعرَه من قبل أحدٌ من القرّاء، ولم ينشر يوماً في أيّ صحيفة، أو أيّ مجلة شيئاً من نتاجه، قد طبع من ديوانه الشعري الأول، نحو خمسمئة نسخة، كلّفته حينها ما يقارب المئتين والخمسين ألف ليرة، كما رُوِي، (والعهدة على الرّاوي).
السؤال العريض في هذه الحالة هو: هل يتمكّن هذا «الشاعر» الحداثوي المستجدّ، من بيع ديوانه الشعري الأوّل، وأنْ يعيد إلى جيبه المبلغ الذي دفعه كأجور للمطبعة، التي أخرجت له هذا الدّيوان ليبصر النور؟!.. لا أظنّ ولا أعتقد أنّ أحداً من القرّاء المتنوّرين سيقول بالفم الملآن: (نعم بكلّ توكيد)، لأنّ واقع الحال يقول عكس ذلك تماماً!!..
فالشّكوى من بيع الكتب «شعراً ونثراً وقصة ورواية» قصْد التربّح والرّسْمَلة وتهرِيم المال، قد أضحت في أيامنا الراهنة شكوى ذات إبر مدبّبة، تَخِزُ عصبَ الرّوح فتجرحه، فتؤلمه، فتُدمِيه.. ناهيك عن أثمان الكتب التي – في الرّاهن – تكوي القلوب والجيوب معاً..
ومهنة الكتابة – وهذا بيتُ القصيد – على أهميّة دَورها في دوران عجلة الحياة ورقيّ المجتمع، لا تُطعم اليوم خبزاً ولا زيتوناً ولا عنباً ولا هواءً، بل نرى أنّ معظم المشتغلين بها قد عضّهم الفقر بأنيابه، ومزّقهم القهر بأظفاره.. لكنْ إلامَ؟..
هذا كافٍ.. والسّلام!!
التاريخ: الثلاثاء13-7-2021
رقم العدد :1054