«شمالُ الخط» وبابُ الأبوابِ المفتوحة على السيرةِ الجمعيّة

 

الملحق الثقافي: محمد الحفري *
كنت أتمنى لو أن القدر لم يعجّل باختطافِ مؤلف هذه الرواية قبل أيام، لكن الأمر لم يكن يوماً كما نحبُّ ونشتهي، والموت يقف مترصّداً على الضفّة الأخرى المقابلة للحياة.
وأعترف بداية أن حكايات أهل الجزيرة، والفرات عموماً، قد جذبتني بشدّة إليها، وأزيد على ذلك، بأن معرفتي بمدينة الرقة، قد توطّدت إلى درجةٍ صرت أحسب نفسي في كثيرٍ من الأحيان من أبناء تلك المدينة، وخاصة بعد أن ذابت روحي في محبة الأصدقاء من سكانها.
أقول هذا بعد أن تعرّفت إلى بعض كتّابها، الذين استطاعوا بإبداعهم أن يقدموا الكثير من الإضاءة على الرقة ابنة الفرات ودرّته، وقد ازدادت دهشتي، ومعرفتي ومحبّتي لكلّ ذرة ترابٍ من تلك الأرض، وأنا أقرأ رواية «شمال الخط» لمؤلفها المرحوم «تركي محمد رمضان» الذي غادرنا تاركاً منجزه بين أيدينا، وهو المبدع حقاً، وبما تعنيه تلك الكلمة، لأنه لم يقدّم رواية وحسب، بل قدّم موسوعة فيها الدربة، والمعرفة، والعلم، والكشف، والتاريخ الذي تستخرجه يدٌ خبيرة، تعرف بثقةٍ وجدارة، كيف يُكتب هذا الفن الشائق والصعب في آنٍ، ولذلك، وبعيداً عن النقد ومصطلحاته واختلاف آرائه ومدارسه وتشعباته، أقول بصراحة: إذا كانت رواية «مفترق المطر» لمؤلفها «يوسف المحمود»، قد شكّلت علامة فارقة في تاريخ الرواية السورية، فإن رواية «شمال الخط» تشكّل علامة فارقة أخرى، وإذا كانت الرواية الأولى معلمة، فهذه الرواية تكاد بكلّ ما فيها، أن تصرخ شاهرة نفسها: تعالوا واكتسبوا مني الخبرة، وتمعّنوا في مكنوناتي التي يبرق معدنها الثمين متوهجاً نحو القمم، والأعالي.
قد يلاحظ المتتبع لهذه الرواية، بروز بعض الأسماء والشخصيات التي منها على سبيل المثال «مراد أفندي، ضامر، أو دامر القهوجي، بدور، عصمت، أرتين، إبراهيم، رشوان، ديكران، مريم أو مريمكي» وغيرها الكثير من الأسماء التي تدل على تنوع ساكني المكان، وبالتالي يمكن القول، إن هذه الرواية لا تمثل سير أبطالها فقط، بل هي كما تقول سطورها، تطرق سيرة أولئك الناس، وتلك الأسر المختلطة من «بدو، وشوايا، وأرمن، وسريان وآشوريين، عنتبلية، ومردلية، وبرجكلية، وأكراد، وتركمان، وخزر، ومسلمين، ونصارى، وصائبة ، ويزيد ، وزرادشت، ومانوية»، وهذا يعني في أحد معانيه الرئيسة، لوحة الفسيفساء السورية التي ليس من شبيهٍ لها في كلّ العالم، حتى على المستوى المصغّر، ونعني بذلك عالم الرواية التي تتطرّق إلى تلك البقعة الصغيرة من الأرض.. كلّ هذا الخليط من البشر، استيقظوا ذات صباحٍ على الفجيعة، وتقطيع الأوصال، وتشتيت الشمل، وقد فرقت الحدود بينهم بعد اتفاقية «سيفر» بين فرنسا، وتركيا.
في رواية «شمال الخط» حكايات العشق، والمحبة، والناس الباحثين عن الرزق، وتلك الأسواق والدكاكين والمحال التجارية، وفيها حكايا الماء والأرض، والحضارة، وبين باب الأبواب والرها، خط ٌحديديّ يفصل بين تلك السهول والوهاد ومن يعبرونها، فهم في منطقةٍ ليس لأحدٍ سيطرة عليها، فلا شيء يحكم تلك البراري الواسعة، سوى الخوف من الألغام، والثأر، والعداوات، وقطّاع الطرق، لكنها لا تنحصر في هذه المنطقة، بل تمتد سير أبطالها إلى «دمشق، وصوفيا، وبلغراد، وفيينا، وباريس، وبودابست» وإلى مطارحٍ كثيرة لا يتّسع المجال للتطرق لها وذكرها، والحديث عما جرى هناك، حيث لذة الاكتشاف، والتعرف من خلالها على عوالم جديدة.
ينفتح هذا العمل على الخرافة والسحر الممزوج بعذوبة الواقع، ويعيدنا إلى أيامٍ كانت الأحلام فيها متوقّدة، حيث الوحدة التي كادت تكون أقرب من أصابع اليد، وجمع السلاح لتحرير ما سلب منا، وهي إلى جانب خطها الحياتي، تسلط الضوء على الحياة السياسيّة التي انكفأت كما أحلامنا، حيث كان طلاب الصف الخامس، هم نسخة طبق الأصل في المدرسة، لطلاب جامعة العاصمة، الذين تتنافس عليهم الأحزاب، لتضمّهم إلى صفوفها، وأولئك التلاميذ لم تكن تفارق أيديهم كتب «إنجلز وسبينوزا وسارتر»، وكانت حناجرهم تُبحُّ وهي تهتف وتطالب بحاجات الجماهير، وبالتالي نجد أنفسنا في مقارنة بين الماضي والحاضر، الذي امتدت إليه الأيادي الغادرة لتجعله ملطخاً بالسواد، كما نجد أنفسنا بين جيلٍ يحمل ثقافة القراءة التي يعدها أساس الحياة، وجيل آخر لا يعنيه هذا الأمر من قريبٍ ولا من بعيد.
تبدأ الذاكرة السردية في هذا العمل، من قافلةٍ عائليّةٍ صغيرة تعبر الحدود نحو الشمال، منذ كان أحد أبطالها في عمر خمس سنوات، حيث وقف ذلك الأب فوق لغمٍ زرع حديثاً، وإلا ما كان ليدوس فوقه، وهو الذي خبر المرور من بين حقول الموت دون أن يمسّه أذى أو شر، ينقل البضائع ويخدم من يحتاج له، وكانت بنادق العسكر التركي مسلّطة على تلك المنطقة بين جانبي الحدود، وهذه البداية الكلاسيك كما في الكثير من مقاطعها، لا تغفل عن الحداثة في مقاطع أخرى، والدليل على ذلك، عودة السرد مراراً إلى بطل الرواية الواقف فوق اللغم، والذي ينتظر أن تبتعد عائلته عن المكان كي لا يصيبها الأذى، والرواية تمزج بين أسلوبين في سردها الأنيق، لتتنقل برشاقة بين الطفولة والصبا والرجولة، وبين ما كان وما يمكن أن يكون، لتنتهي بانحرافِ الكثير من أهداف أبطالها عن البوصلة المأمولة، والمرتجاة.
تجنبنا في هذه العجالة قصداً، الدخول في تفاصيل هذا العمل، أو التطرّق إلى مفاصله الرئيسة، وما قلناه عنه هو النزر اليسير فقط، فهو بناءٌ شامخٌ وقد لا نبالغ في قولنا عنه، بأنه مجموعة أبنية متراصة، بنيت بذائقةٍ فنيّة مترويّة، لتشكّل في حدِّ ذاتها، مدينة روائية في دهاليزها، وأزقتها، وحاراتها وشوارعها، ما هو مثير للدهشة التي تمتزج بعوالمٍ غرائبيةٍ وعجائبيةٍ، وبالتالي يمكننا القول باطمئنان، إن رواية «شمال الخط» لمؤلفها «تركي محمد رمضان»، لها طعمٌ خاص، ونكهة معطّرة بسردها المتفوّق على غيره، وهي تأتي، لتكون قيمة مضافة، تقدّم الكثير للرواية في بلادنا، وترفدها شكلاً ومضموناً، وجمالاً قلّما نعثر عليه في نصوصنا السرديّة، ولعلّ فيها الكثير من الردودِ على أن الرواية السورية لم تحلّق، ولم ترتفع إلى القمم الشاهقة، والعالية عُلواً ليس له من مثيل، ولنقول بعدها: هي فقط تحتاج إلى الكشف، وإلى قارئٍ متبصّر وبصير في الآن ذاته..
«شمال الخط».. من إصدارات «دار توتول للطباعة والنشر التوزيع»، وتقع في ٤٠٤ صفحات من القطع المتوسط.
* روائي وقاص ومسرحي

التاريخ: الثلاثاء13-7-2021

رقم العدد :1054

 

آخر الأخبار
تصاعد الصراع بين إسرائيل وإيران يتصدر أعمال قمة مجموعة السبع تصعيد إيراني في عناوين الصحف: إسرائيل تحت النار والولايات المتحدة في مرمى الاتهام خلخلة الاستثمارات عالمياً خبير مصرفي لـ"الثورة": تراجع زخم الاستثمارات تحت وقع طبول الحرب سعيد لـ"الثورة": الأسواق المالية عرضة للصدمات الخارجية الحلبي في مؤتمر الطاقات المتجددة: من التبعية إلى الإبداع... والتعليم العالي شريك وزير الصحة ومحافظ إدلب يُجريان جولة ميدانية لتفقد المنشآت الصحية المتضررة بريف إدلب غياب الفيلم السوري عن مسابقة الأطفال في "الاسكندرية" قهر الاغتراب.. في وجوه الرواية وتمرّد الحياة الفاضلة مينه: نصرة الفقراء والبؤساء والمعذّبين في الأر... هجوم إسرائيلي يُطيح بقيادة الظل .. مقتل رئيس استخبارات الحرس الثوري الإيراني ونائبه الإصلاح الضريبي في سوريا.. ثقة تحتاج لترميم لجان وصلاحيات وصولاً إلى صيغ مناسبة للعدالة بالضريية رحلة أوروبية جديدة تصل دمشق وتدشّن خط طيران مباشر بين سوريا ورومانيا التقاعد: بوابة جديدة للحياة أم سجن الزمن؟. إجراءات سورية أردنية جديدة لتنظيم عبور الشاحنات وتعزيز التبادل التجاري " مثقف السلطة بين عهدين ".. تضخّم الذات والخوف من الرقيب اللاذقاني : الثورة السورية أعادت لي هويتي ... معالجة مشكلات المياه في قطنا وضمان عدالة التوزيع على مختلف الأحياء "أفراح الكرامة"... فسيفساء فنية تحتفي بالهوية السورية أيام وزان ريتا حلبي في تجربة أداء "ملف نفسي" الرواية والسينما.. تقاطعات الإبداع وجدليّة التحويل استقالة الحاج عمر من إدارة جبلة