الملحق الثقافي: هفاف ميهوب:
تغمس قلمها في الجرح النازف، جرح روحها وقلبها ووطنها.. تغمسه في أرض فلسطين الحبيبة، ونبض سورية القصيدة، لتكتب بعدها وبالوجع الكبير «وشاية الرحيل».. تتحوّل مفرداتها إلى دموعٍ تنهمر على صفحاتها البيضاء، فتزيل كلّ سوادٍ قد يعتريها، لأنها ترى أن الكتابة عن الأوطان، هي فعلٌ مقاوم، يلعنُ أعداء الحقّ، ويقدّس الشهداء..
يتحوّل ظلام الرؤية والرؤى إلى نور، تضيء به على الأصالة، وتستحلفها بأن تكون شاهدها على قصصٍ وحكايا، تعبق برائحة الأرض، بالدم البخور..
إنها الشاعرة والأديبة والقاصّة «زهرة عبد الجليل الكوسى»، التي لم تفعل ذلك فقط، في دواوينها الشعرية، بل وفي رواياتها ومجموعاتها القصصية.
«وشاية الرحيل» إحدى هذه المجموعات، وقد صدرت حديثاً عن «دار العراب للدراسات والنشر والترجمة»، معرّية الفاسدين والخونة، بقصصها التي يحمل أوّلها عنوان المجموعة، وتحكي عمّن يخون وطنه أولاً، وواجبه ثانياً، وضمن مهماتٍ تتطلب الأمانة، لا التخاذل والتآمر على الواجب ومَهامه.
«يغلق المسؤول جهاز اللاسلكي بغضبٍ عارم، وهو يهدّد ويتوعد الرفيق العابث بمهامه، وما أن تنتهي جولته الميدانية في الموقع، بعد أن اطمأنَّ على المقاتلين وزوّدهم بالتعليماتِ الضرورية للمعركة القادمة، وإذ بقذيفةٍ تسقط بالقرب منه، وتؤدي إلى استشهاده على الفور، مع بعض المقاتلين..
في اليوم التالي، كان الرفيق الهارب أول المشيّعين، وأول من ألقى كلمة التأبين، وتمّ تعيينه فيما بعد، قائداً لغالبية المواقع الهامة، وممثّلاً شرعيّاً عن شعب الشتات، إلى يومنا هذا..»…
إنه ما أثار «لواعج ملوثة» لدى «زهرة» التي لم تجد بداً من إشراك بطلها بتداعياتها.. زوجها، الذي محت الدماء تاريخ رسالة شوقٍ كان قد أرسلها إليها.. الرسالة التي ذكّرها فيها، بما كان قد حدّثها به ذات شكوى آلمته، وعن نذالة المحتل في تعامله مع الأسرى، وفي احتلاله لأرضٍ اقترف بحقّ شعبها من الإجرام، ما يؤكّد حقده وعنصريّته..
حدّثها بذلك، لكنه لم يحدّثها عن نذالةِ وحقد ووحشيّةِ أعداء اليوم، ممن «مارسوا القتل والتنكيل بالبشر، بطرقٍ مرعبة، من ذبحٍ وحرق وإغراق وخنق، وسوى ذلك مما جعلها تنسى ورود الشوق، وتفقد قدرتها على شمّ عطرها»، بل وتناجي المناضل الغائب، مؤكّدة له بأنه يستطيع، وبعد ما شهدته من البشاعات التي اقتُرفت مُذ بدء الحرب على سورية:
«تستطيع أن تفكّ رموز طلاسمي، وتدرك كم جيفةٍ استوطنتني، وبرعت في نشرِ رائحتها العفنة داخلي»..
هي مناجاة لمناضلٍ راحل، أرادات أن تقدّم له رسالتها الروحية، تناشده فيها بأن يرتدّ إلى الحياة، ليقاتل مع المقاتلين المقاومين، ويدحرُ أقزام العمالة الوضيعة، والمنقادة لأعداءِ الحقّ المتفجّر شظايا أجسادٍ، دفاعاً عن الأرضِ السوريّة.
نعم، هي مناجاة عاهدته عبرها، أن تخلع كلّ أقنعة الوجوه والضمائر والأفكار الخائنة والعميلة، وهو ما فعلته عندما أزالت «قناع» ذاك الذي أسمته «الفزاعة»، وكان قد لقّب نفسه بـ «غيفارا».. زوج صديقتها التي اكتشفت وبعد أن أورثها عار حقيقته، ما كانت هي قد اكتشفته، ومذ رأته لأول مرّة، وقرأت ملامح جاسوسيّته..
تنصتُ لصوتِ حقيقتها، تسمع صوت «الكربلائيّ» الذي اغتالته الأيدي الغارقة بدمويتها.. رجل المهمات الصعبة الذي ما كان لها أن تعرف حقيقته، لولا إلحاحها على زوجها لمعرفة، ما جعلها توقد المفردات لتروي حكايته:
«كثرت أسئلتي وتساؤلاتي، عن سرّ الهزيمة الساحقة لداعش، في العراق، وزوجي يصرّ على عدم الجواب.. يتهرّب بكليماتٍ مقتضبة: الله يمدّنا بجنودٍ لا نراها.
عند عودته من المعاركِ في إجازةٍ قصيرة، كان ينشغل بمتابعة الأحداث، ميدانيّاً، وعبر الهاتف ينهي بجملةٍ لفتت انتباهي: إنه قادم فانتظروا..
عدتُ أسأله بإلحاح: من هو القادم؟!..
قال بإيجاز: الكربلائيّ!. إنه يحمل وجع الإنسان المقهور، في حلّه وترحاله، يغرس عناده في مدرسة الشهادة والإيثار، ويمضي محمّلاً بالإيمان والأمل.. هو ذاك الذي قضى على داعش، في العراق، وفي سوريّة، بمؤازرته لأبطال الجيش العربيّ السوري. زرع عرق جبينه في الأرض، وترك لنا حصادها.. غالبية السلاح في فلسطين، ممهوراً ببصمته، ورشقات الموت التي تخترق القبة الحديديّة لعدوّنا، من أهم إنجازاته…
في الدقيقة سبعة وثلاثين، من فجر الثالث من كانون الثاني لعام 2020، صدمني خبرٌ عاجل، ضجّت به الفضائيات الإخبارية، مفاده: غارة أميركية في العراق، تودي بحياة قائد فيلق القدس، الجنرال «قاسم سليماني». المطلوب الأول لأميركا وإسرائيل».
لا تجد «زهرة» بعد هذا الخبر كلام، ولا تبحث عن مزيدٍ من الحكايا لترويها.. لكن، يجبرها الواقع الذي تنهال عليها قصصه اليومية والمأساوية، على استجماع مفرداتها، وضمّها بـ «حزمة حطب»، بحثاً عن دفءٍ مباح، لا يجمّده صقيع الحاجة الخائن، ولا يحرقه التعصّب الذي واجهته، بتمرّدها وصرختها الـ «حرّة كالرياح»:
«أنا ابنة فلسطين الحبيبة، وأرضي ولّادة سوريّة الإباء والشهيد.. أتيتها فانغرستُ في عمقها، وأنت تنقّلت بين مدينةٍ وأخرى، فهل لك أن تخبرني، كم مرّة أنت لاجئٌ ويعيد؟»!..
هي أيضاً، الأم المقاتلة، إن شعرت بأن شرّاً قد يصيب وحيدها «في يومٍ ما»، فكيف وإن كان هذا اليوم أيام، عاشتها وهي تترقب الخطر.. الخطر الذي ولأنها لم تعرف كيف تردّه عن وحيدها، اضطرّت لخلع قلبها من مكانه، وترحيله بحثاً عن أمانه.. بقيت بلا قلب، ولا شيء يحميها أو يردّ عنها، ماردّته عن فلذة كبدها، من إجرامٍ وحقد..
لاشك أنه الجحيم، ويزداد واقعنا اشتعالاً به، بسبب أجيال «الجحيم العربي».. الأجيال غير الواعدة أو الواعية، والتي لاتشبه ولا تملك، ما امتلكه «صبري».. الإرادة الصلبة التي دفعته لتحدّي ومواجهة الإرهابيين.. رجمهم بالحجارة من على سطح منزله، إلى أن نالوا منه ومزقوه بوحشيةٍ، جعلتها توثّق بقلمها ونزف روحها، ما وثّقه معها غالبية السوريين:
«في يومٍ من الأيام، سمعنا جلبةً وضجيجاً في الحارة، صعد «صبري» إلى السطح، خرجتُ لأستطلع الأمر، وإذ هم وحوش قادمة باتّجاهنا، أدركت لحظتها أن ليس هناك من يُنجدنا، أو يسمعنا، فكلّ شيءٍ مفزعٌ حولنا، بدءاً من السكون، وانتهاءً بصيحاتهم وهم يكبّرون استعداداً لذبح الشبّان الذين يقعون بين أيديهم..
عندما وصلوا أمام الببت، كانت الدماء تسيلُ من رؤوس البعض، دفعوني بقوة إلى الأرض، شعرت بشيءٍ ثقيلٍ يهوي على رأسي، وأغمي عليّ…
عندما استفقتُ من غيبوبتي، سارعت وصعدت إلى السطح، مقرّ «صبري» المحبّب لقلبه.. رأيته غارقاً في دمه، وآثار التعذيب طازجة كصراخي: «كانت رصاصة واحدة، تكفي ياالله..»…
هذا ماقرأناه في «وشاية الرحيل».. وكنا قد قرأناه واقعاً أليماً جداً، فهل سيخثّر حبر الكتابة النازف، أم أن جرحه لن يلتئم أبداً؟!…
التاريخ: الثلاثاء13-7-2021
رقم العدد :1054