الثورة – بسام مهدي:
في عالمٍ تتسارع فيه خطوات التحول الرقمي ويُقاس فيه تطور الدول بمدى كفاءة بنيتها التحتية الرقمية، تبرز أهمية تنظيم قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بوصفه حجر الزاوية لأي مشروع وطني للتحديث والنمو. وفي هذا السياق، تأتي زيارة وفد وزارة الاتصالات والتقانة السورية إلى هيئة تنظيم قطاع الاتصالات والبريد في المملكة الأردنية الهاشمية، كفرصة استراتيجية لفهم تجربة إقليمية رائدة، يمكن أن تُسهم في بلورة نموذج سوري أكثر نضجًا وحداثة في هذا القطاع.
الزيارة: أكثر من مجاملة بروتوكولية
بعيدًا عن الطابع البروتوكولي للزيارة، حمل لقاء الوفد السوري برئاسة وزير الاتصالات وتقانة المعلومات مع الرئيس التنفيذي لهيئة تنظيم قطاع الاتصالات الأردنية، بسام السرحان، دلالات واضحة على رغبة دمشق في الانفتاح على التجارب الإقليمية الناجحة، خصوصًا تلك التي أثبتت قدرة على المواءمة بين التنظيم الفعّال والانفتاح الاقتصادي.
الجانب الأردني قدّم عرضا شاملاً حول آليات عمل الهيئة، التي تُعنى ليس فقط بضبط جودة الخدمات، بل بتوفير بيئة استثمارية جاذبة، وتنظيم طيف الترددات، وإدارة العلاقة بين المشغلين والمستفيدين، وهي مهام جوهرية لأي هيكل تنظيمي حديث يسعى لضمان التنافسية والشفافية في قطاع الاتصالات.

منظومة رقابة دقيقة.. التكنولوجيا في خدمة التنظيم
أحد أبرز ملامح التجربة الأردنية التي اطّلع عليها الوفد السوري خلال جولته الميدانية في الهيئة، هو الاستخدام الذكي والمتكامل للتكنولوجيا في ضبط المشهد الاتصالي. حيث استعرضت الهيئة أنظمة المراقبة الخاصة بعمل المشغلين، إضافة إلى أحدث تقنيات متابعة استخدامات الطيف الترددي.
هذه الأنظمة لا تعمل فقط على ضمان التزام الشركات المرخصة بمعايير الجودة، بل تشكل آلية إنذار مبكر لأي اختلال تقني أو تجاوز تنظيمي، وتفتح الباب أمام تقديم خدمات أفضل للمستخدمين.
الاستثمار في بيئة رقمية جاذبة: هدف لا يقل أهمية
لم تقف التجربة الأردنية عند حدود التنظيم الفني، بل امتدت إلى ما هو أبعد من ذلك: خلق بيئة استثمارية محفزة تواكب الطموحات الرقمية للدولة والمواطن. وهذا ما أبرزه الجانب الأردني خلال العرض، حيث بُنيت السياسات التنظيمية لتشجّع على الابتكار وتوسيع السوق، مع حماية حقوق المستهلك في ذات الوقت.
السؤال هنا: كيف يمكن لسوريا أن تستفيد من هذه التجربة؟ وما الأدوات التي يجب أن توفّرها هيئة أو جهة تنظيمية وطنية لتكون بالفعل حامية للمستخدم، وموجّهة للمستثمر، ومراقِبة فعالة للمشغّلين؟
نحو نموذج سوري جديد في الحوكمة الرقمية
إن زيارة الوفد السوري تفتح النقاش مجددا حول الحاجة لإعادة تحديث قطاع الاتصالات في سوريا، و أدواته القانونية والتنظيمية، و تطوير الإطار التنظيمي وتحقيق التوازن بين المنافسة والتقنين، على غرار النموذج الأردني.
هذا النموذج لا يتطلب بالضرورة تقليدا حرفيا، بل استيعابا ذكيا لجوهر التجربة: وضع المواطن في قلب عملية التطوير، وضمان أن كل قرار تنظيمي يصب في تحسين جودة حياته الرقمية. ومن هنا، فإن تبنّي أنظمة مراقبة رقمية، وضبط إدارة الطيف الترددي، وتحقيق الشفافية في التراخيص والعلاقات بين المشغلين، يجب أن تتحوّل من “ترف تقني” إلى أولوية وطنية.
خاتمة
زيارات كهذه يجب أن تُبنى عليها مبادرات ومشاريع تنفيذية حقيقية. والفرصة اليوم مواتية أمام سوريا، في ظل ما يشهده القطاع من إعادة نظر في السياسات والتشريعات، كي تبدأ خطواتها نحو “حوكمة ذكية” تنقل قطاع الاتصالات من كونه خدمة بطيئة وشبه محتكرة، إلى صناعة تنافسية مرنة، تخدم الاقتصاد والمواطن على حد سواء.
إن التجربة الأردنية تبرهن أن التنظيم الجيد ليس معيقًا، بل هو المحرّك الأول للنمو. وسوريا، بخبراتها وكوادرها، قادرة على أن ترسم نموذجها الخاص، إن اختارت أن تمشي على طريق الشفافية، والكفاءة، والتخطيط الاستراتيجي الرقمي.