الثورة أون لاين – فؤاد مسعد:
عديدة هي الأدوار التي تحمل غايتها عبر غنى مفرداتها، وتفرد تفاصيلها، وتميز سماتها فتأتي مُشبعة بعوالم تحمل سحرها لتشكّل في مجمل مفاصلها حافزاً ومحرضاً للممثل وجاذباً تشده إليها ليؤديها بكل ما يمتلك من شغف، وهواجس تُحرك الكامن داخله، مثل تلك الأدوار تخبئ بين زواياها ثنائية الرهبة والمتعة في الأداء، هي متعة اللعب والقدرة على توظيف المكنونات الداخلية لتظهر لدى عيش الحالة بكل تجلياتها وتقديمها بالصورة الأكثر تأثيراً، فتمنح الفنان فرصة ليُظهر ما يمتلك من طاقات وملكات إبداعية، ويكشف الخوض في غمارها قدرته على التلون والغوص في عمق مفرداتها وتاريخها، والشغل على أدق تفاصيلها، والبحث عن أدوات تعبير تلائم طبيعتها ومضمونها عبر دراسة مُحكمة تفضي إلى تقديم أداء متقن وظّفت فيه كافة أدوات الممثل سعياً للوصول إلى بر الأمان، وللصيغة المثلى والتحليق بها إلى أفق أرحب وتجسيدها بحرفية عالية، وإقناع وإعطاء جرعة عالية من الإحساس حتى من خلال الصوت وخلجات الوجه ونظرة العين.
تلك الصفات لن تتوفر في كل ما يقدم من شخصيات ضمن الأعمال الدرامية، وإنما قد يفتش عنها الممثل.. وما إن تصل إليه حتى يتمسك بها لأنها تقدم له حالة مختلفة عن السائد، وإن أداها بالمستوى المطلوب قد تحقق له نقلة هامة في مسيرته الفنية، على العكس من الشخصيات ذات اللون الواحد أو تلك التي تُحمّل بكم من الثرثرة التي لا طائل منها، وأمام ذلك كله يبزر عدد من التساؤلات التي يمكن التوجه بها إلى عدد من المخرجين والكتّاب والفنانين: متى يقول المبدع أن هذا الدور يحرض ما في داخله من قدرات كامنة؟ متى يستطيع أن يستفزه للبحث والعمل بجدية ليحقق من خلاله نقلة كان يطمح إليها؟ وما الاختلاف بين صفات هذا الدور والدور الذي يمر مروراً عابراً ويؤديه الممثل من باب العمل ليس أكثر؟.
ـ اليد على الجرح:
كثير من الكتّاب يقومون ببناء شخصيات عملهم بعناية فتحمل كل منها خصوصيتها وخطها الدرامي، ولكن إلى أي مدى يهتم الكاتب في بناء شخصية محرّضة للممثل الذي سيؤديها؟ لا بل هل يضع هذه الجزئية نصب عينيه أم تراها ليست من أولوياته دائماً؟.. ضمن هذا الإطار يؤكد الكاتب بسام مخلوف أن الشخصية يمكنها تحريض الممثل واستفزازه لتأديتها بشكل الأفضل عندما يضع الكاتب يده على الجرح الحقيقي للمجتمع فتحكي بذلك عن الواقع المعاش، يقول ( أحاول كما يحاول أغلب الكتاب الاعتناء بهذه الجزئية لتظهر الشخصية بمظهرها الحقيقي، ولكن بسبب التعديلات التي تحدث بعد الكتابة قد يضيع هذا الأمر ).
وحول مدى قدرة المخرج على تحريض القدرات الكامنة لدى فنان ليظهر ما في دخله عبر شخصية هي بالأساس مُحرضة ومُركبة، يقول المخرج محمد زهير رجب: على المخرج بداية أن يتفق مع الممثل على مفاتيح الشخصية فيقرأ معه تاريخها السابق ويتناقشان حول تركيبتها النفسية وحركتها ونظرتها، وينبغي أن يكون هناك نوع من الاستفزاز المتبادل، أي أن يستفز الممثل المخرج ليعطيه أكثر ويصلان للمكان الأفضل، ومما لا شك فيه أن هناك دوراً نمطياً عادياً، ولكن بالمقابل هناك دور يحوي حالات مختلفة، فالشخصية التي تدخل إلى تفاصيل حياتها وتركيبتها النفسية وبنيتها الفكرية من خلال النص بشكل أكبر تكون مستفزة أكثر، وقد تجد ممثلاً يقرأ الشخصية ويفهمها باتجاه واحد ربما اتفق معه أو لا أتفق فأعطيه قراءة أخرى لها ونتحاور لنصل إلى قراءة مشتركة، وبالنسبة إلي فإنني عادة ما ألجأ إلى استفزاز الممثل أمام الكاميرا.
ـ تاريخ الشخصية:
ضمن الإطار نفسه تؤكد الفنانة رنا كرم أن العامل الأساسي في هذه المعادلة هو الحوار، تقول: (عندما أقرأ مونولوج أو حوار الدور، وأبدأ بتخيل نفسي وأنا أؤديه أعرف عندها أنه استفزني، وتأتي لاحقاً التفاصيل وما يجري مع الشخصية وموقعها من الأحداث، وأحياناً يأتيني دور كنت أتمنى تقديمه أو يكون فيه ما يشبهني، أو يضم مواقف تشبه مواقف سبق وعشتها أو عشت ما يشبهها، وفي الكثير من الأدوار حدث معي هذا الاستفزاز بطريقة أو بأخرى)، أما الفنان رامز عطالله فيشير إلى أهمية أن يعرف الممثل الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي نشأت فيها الشخصية التي يؤديها لأن من شأن ذلك أن يستفزه كمبدع لتقديم المختلف، يقول: هناك شخصيات فيها مادة إبداعية وتفاصيل مختلفة تحركك من الداخل، وبالمقابل هناك شخصيات لا تُكتب بشكل صحيح فتأتي مسطحة لأن أغلب الكتّاب يهتمون بعدة أبطال في المسلسل والبقية عبارة عن مساعدين، وبالنسبة لي فإنني أحب الأعمال التاريخية أكثر لأنها تُكتب بشكل أجمل، فمن يكتب تاريخي يرى الشخصيات كلها ولا يعتمد على فرد وحتى الشخصية ذات عشرة مشاهد تكون مدروسة، خاصة إن كانت موثقة.
ـ النص هو الأساس:
يؤكد الفنان وضاح حلوم أنه عندما يُكتب الدور بشكل صحيح ويدخل عقلك ويقنعك بكل تفاصيله ومفاصله وتحولاته، فتحبه من قلبك ويحرّضك أن تحقق من خلاله ما هو مهم، مشيراً إلى أن الأمر مرتبط أيضاً في كيفية طرح الدور ضمن النص، وبالنسبة إليه تحرضه الأدوار المركبة ولكن قليلاً ما تتوفر، ويشدد على فكرة أن الدور الذي يؤديه الفنان ولا يشبهه يحقق له متعة أكبر خاصة أنه كثيراً ما أدى دور الشرير، يقول: (ما لا يشبهني يكون لدي مساحة لألعب فيه بشكل أكبر بكثير من الأدوار الأخرى، لأنه يحرض على البحث لتخلق ما هو جديد وغير موجود عندك، كما أنه يحقق لك ما لا يمكن أن تقوم به في الحياة وربما تتمناه في عقلك الباطن، أي إن شخصيات لها علاقة بالشر والانتقام لا تستطيع القيام بها في الحياة فتحققها في الدراما).
وترى الفنانة ريم عبد العزيز أن الدور يكون محرضاَ عندما يُكتب بطريقة جميلة وتكون الشخصية موجودة في الواقع وتعايش معها الفنان، ومطلوب منه تجسيدها فيلتقط الملامح التي عليه تقديمها ويقوم بصياغتها ممسكاً مفاتيحها ومستعيناً بأدواته الخاصة وعندها سيحبه الناس، مشيرة إلى أنها أحياناً تؤدي دور (ضيفة شرف) وتفاجأ أن الناس أحبوا الشخصية رغم قلة حضورها، وبالتالي الشخصية المكتوبة بشكل صحيح تحرض الفنان في حين أن الشخصية التي تُكتب بشكل حيادي يشعر أن ملامحها رمادية ولا تستفزه