الثورة أون لاين – سلام الفاضل:
الرسم بالكلمات هو إبداع درج على نهجه كثير من الشعراء، إذ مزج بعضهم كلماته كما تمزج الألوان، واستعاروا من الفنان التشكيلي ريشته وتقنياته، وشرعوا في إبداع قصيدة هي أشبه ما تكون بلوحة فنية لا ينكر من يقرؤها استمتاعه بالألوان الطافحة من ثناياها، وانغماسه في جماليات بصرية ممتعة، وإذ به يتأملها مستعيناً بحواسه الخمس كما يتأمل متذوق الفن لوحة عُلقت على جدار متحف ما، فهل يمكن للشاعر أن يكون فناناً تشكيلياً؟
هذا التساؤل أجابت عنه المحاضرة التي ألقاها اليوم الناقد والشاعر ثائر زين الدين في مقر فرع دمشق لاتحاد الكتّاب العرب وحملت عنوان (الشاعر فناناً تشكيلياً).
بدأ زين الدين محاضرته بسوق عبارة الجاحظ التي يصف فيها الشعر بأنه “ضرب من النسيج”، متخيلاً أن الجاحظ قد استحضر لحظة كتب عبارته تلك “صور الأنسجة والأقمشة باهرة الجمال بألوانها ونقوشها ورسومها التي كانت تملأ أسواق بغداد والبصرة قادمة من بلاد فارس والهند والصين؛ وهو ما يحيل إلى الفن التشكيلي بصورة من الصور”.
وينتقل زين الدين لاحقاً إلى عرض يوجز خلاله التساؤلات التي تُطرح في أسبقية أي من الأمرين للآخر.. فهل كان التصوير سابقاً للشعر؟ أم إن الكلمة قد سبقت التصوير والنحت وغيرهما من أجناس الفن التشكيلي؟
وفي هذا يقول: “بأن البعض يرى بأن التصوير سابق للشعر؛ فلوحات جوزيف فيرنيه التي تعرض أمواج البحر سبقت صفحات شاتوبريان التي تصف العاصفة والليل، والتيار الرومانسي الذي استلهم القرون الوسطى وتغنى بالمشاعر الشخصية أنتج فرائده في تصاوير دولاكروا قبل مسرحيات هوغو وملحمته “أسطورة العصور”.
ويتابع: “على أن كثيراً من الباحثين يرى أن الكلمة قد سبقت التصوير وألهمت الفنانين سواء أكانت شعراً أم نثراً روائع خالدة”، ويورد مثالاً على ذلك قصيدة للشاعر أمل دنقل استلهم فيها الرسوم المصرية الفرعونية:
أوهموني بأن السرير سريري
أن قارب “رع”
سوف يحملني عبر نهر الأفاعي
لأولد في الصبح ثانية… إن سطعْ
* الشاعر فناناً تشكيلياً..
في هذه الجزئية يتحدث زين الدين عن طموح الشاعر الذي يرتقي إلى التعامل مع قصيدته أو مع الورقة البيضاء التي سيكتب عليها كما يتعامل الفنان التشكيلي مع لوحته؛ وفي هذا ييبّن بأنه هنا: “تتجلى أعلى مراتب التراسل بين الفن التشكيلي والشعر”. ويردف: “وستجد من الشعراء من تمكّن من تحقيق شيء من هذا لأنه صاحب موهبة عالية وذائقة سامية، دون معرفة أكاديمية أو مدرسيّة بالفن التشكيلي”.
ويبحر زين الدين تالياً في تجارب شعراء الأندلس الذين عدّهم رسامين ماهرين في استخدام الألوان، وأن تجربتهم “قد أثّرت في بعض الشعراء الذين جاؤوا بعدهم وأفادت الأذكياء منهم فطوروها… وعلى رأس هؤلاء الشعراء فريدريكو غارثيا لوركا الذي يُعدّ الوريث الشرعي لهؤلاء الرسامين، والذي قال عنه سلفادور دالي ذات يوم: (ليس لدى لوركا صورة شعرية تبدو خالية من لون مرتعش…)، ويورد مثالاً على ذلك العديد من قصائد لوركا، ومنها قصيدته (حكاية القمر):
جاء القمر إلى دكان الحداد
بسرجه العنبري
وأخذ الطفل يحدق إليه
يحرك القمر ذراعيه
ويكشف بعهر وبطهر صدره القصديري الصلد.
ويكمل زين الدين رحلته في عالم الكلمة واللون فيعرج على قصائد الهايكو التي يرى أن القصائد الناجحة من هذا اللون الشعري جميعها ما هي إلا لوحات طبيعية صامتة بكل ما للكلمة من معنى، ويتابع قائلاً: “إذ فور قراءة واحدنا لقصيدة الهايكو ترسم مخيلته بوضوح ويسر لوحة بصرية هي معادل مباشر للمفردات، فمن السهولة بمكان أن يحوّل أي مصور قصيدة الهايكو إلى لوحة وبسرعة نادرة ربما لأنها مبنية ومؤثثة وفق رؤيا اللوحة، وهذا ما لا يمكن قوله عن النصوص الشعرية الأخرى”، ومثال على ذلك يسوق قصائد عدة، ومنها قصيدة “زهرة الأقحوان”:
انظر.. أوه.. كم هي مخيفة
الأظافر المطلية بالأحمر على
أرضية من الأقحوانة البيضاء.
ويعرض زين الدين كذلك لبعض القصائد التي برع مؤلفوها في استخدام تقنية رسم لوحة القصيدة بلونين فحسب، ومن هؤلاء الشاعر السوري صقر عليشي في قصيدته “خارج السرب”:
صوت الحليب أبيض
أسمعه
يفيض من جوانب الإناء
أبيض الضباب مُغلق
وأبيض الثلج مُشرّع
على الفضاء
لكن نظرة التفاح
وحدها
حمراء
ويعلق على هذه القصيدة بالقول: “إن الشاعر رسم صورته وطلب منّا أن نستخدم حواسنا المختلفة في فهمها، وفي تذوّقها…”.
وقد يوظّف بعض الشعراء خبرتهم وثقافتهم الفنية بشكل خفي ودون استعراض، ويناقش زين الدين هذه الفكرة بعرضه قصيدة محمود درويش “في شتاء ريتا الطويل” التي يرى فيها أن مبدعها “قد رسم لوحة زاخرة بالألوان المختلفة الحارة والباردة والمحايدة، وهو لا يصرّح دائماً باللون لكنه يكني عنه أو يستخدم الاستعارة والتشبيه…”.
وليست الألوان وحدها هي من تخدم الشعراء في عوالم رسم لوحات قصائدهم، وهذا ما ختم به زين الدين محاضرته هذه إذ أوضح “إن استرفاد الشاعر لعالم الفن التشكيلي والتصوير لا يتوقف على علم الألوان وتقانات وضع اللون، لكن قد يسترفد الشاعر مفهوم اللوحة وخصائصها وطرائق بنائها؛ ليبني بذلك قصيدته، كما فعل الشاعر الفرنسي جاك بريفير في قصيدتين مشهورتين له، وهما: (نزهة بيكاسو)، و(مصباح بيكاسو السحري) فقد بنى الشاعر هاتين القصيدتين كما تُبنى اللوحة السريالية أو التعبيرية”. ومن قصيدة “مصباح بيكاسو” نقرأ:
البهاء الذي لا يُنكر لآنية المطبخ
الجمال المباشر لخرقة في مهب الهواء
الرعب المجنون من الفخ في نظرة عصفور
الصهيل غير المعقول لحصان مفكك الأوصال
الموسيقا غير المحتملة لبغال بجلاجلها
الثور الذي يُقتل متوجاً بالقبعات