إحياءُ الأنسنه.. بمقاومة البربريّة الغربيّة

الملحق الثقافي:هفاف ميهوب:

في كتابه «ثقافة أوروبا وبربريّتها» يبدأ الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي «أدغار موران»، بتقديم لمحة عن أنثروبولوجية البربرية الإنسانيّة، ذلك أنه حاول في أعمالٍ سابقة، توضيح أن فكرة الإنسان المفكّر، والإنسان الصانع، والإنسان الاقتصادي أو المنتج، ظلّت ناقصة، فالإنسان المفكّر قد يكون في الوقت نفسه، أحمق وقادرّاً على الهذيان، والإنسان الصانع الذي يتقن صنع واستخدام الأدوات التقنيّة، تمكّن أيضاً، من صنع أساطير لا تُحصى، والإنسان الاقتصادي أو المنتج، المعروف من جهة مصلحته الخاصة، هو إنسان الاستهلاك. أي، الإنفاق والتبذير..
يرى «موران» هنا، بأننا إذا دمجنا هذه الحالات مع بعضها، نجد أن الحماقة المنتجة للهذيان والحقد والازدراء، وبالتالي البربريّة، قد وجدوا في مجتمعات انتشرت في العالم منذ عشرات آلاف السنين، وأنتجت تنوعاً هائلاً من الثقافات واللغات والموسيقا والطقوس الإلهية، وهي جميعها لا ترتبط بصلةٍ تّذكر، بالمجتمعات السحيقة في القِدم، والتي أدى تطورها وتحضّرها، إلى احتدام الصراعات، وكثرة الغزوات التي تجاوزت حاجتها ومستلزمات حياتها، إلى السلب والنهب والتخريب والاغتصاب والاسترقاق والإبادات، ومن هنا اتّضحت معالم البربريّة…
هي بداية، ما أوردها «موران» إلا ليجيب على تساؤله: كيف بإمكان الحضارة التي أنتجت العلم والثقافة والفنون والمعرفة، أن تنتج بربريّة متوحشة؟..
«ليست البربريّة مجرّد عنصرٍ يرافق الحضارة، وإنما هي جزء لا يتجزّأ منها، فالحضارة تولّد البربريّة، انطلاقاً من الغزو والسيطرة، فالغزو الروماني مثلاً، كان من أكثر أشكال الغزو بربريّة، في العصر القديم بأكمله، وخاصة في «كُورنثيا» باليونان، إلا أن الثقافة اليونانيةُ تسرّبت إلى داخل العالم الروماني الذي أصبح امبراطوريّة، وهو ما قصده شاعر لاتيني في قوله: «اليونان المهزومة، هزمت هازمها الفتّاك».
يقدّم مثالاً آخر، لكن عن البربريّة الدينيّة، تلك التي انطلقت منذ القِدم، حيث كان لكلّ شعبٍ «إله حرب» لا يرحم الأعداء، وهو مالم يسمح بتعدّد الآلهة فقط، بل وبالتعايش معهم جميعاً، وقد دلّ على ذلك بإشارته إلى أن:
«المسرحيّة العجيبة «أوريبيد» بيّنت أن الوصول المدمّر والأحمق للإله «ديونيزوس» مكّنه من الاندماج في مجتمع الآلهة اليونانيّة، وفي القرن التاسع عشر، حينما طرح «نيتشه» السؤال المتعلّق بأصل المأساة، أبرز موضوع الطابع المزدوج للميثولوجيا اليونانيّة، فمن جهة يوجد «أبولون» رمز الاعتدال، ومن جهة أخرى يوجد «ديونيزوس» رمز الإفراط، والعلاقة هذه توضّح قول «هيروقليطس»: «وحّدوا بين ما يجمع، وما يفرّق»..
بعد خوض «موران» في تفاصيل كلّ هذه الأنواع من البربريّة، وتقديمه أمثلة تدعمها مقولات وأسماء مسرحيّات جسدت حقيقتها وبشاعتها، مثلما آثارها وانعكاساتها، ولاسيما السلبيّة.. بعد هذا، ينتقل إلى ما أسماه «الغزو البربري الحربي» الذي وجد بأن أشكاله الحديثة، بدأت مع الاستعمار..
أمثلة كثيرة يقدمها هنا، ليكون المثال الأكبر والأفظع، ما اقترفته البربريّة الغربية والأميركيّة خاصة، بحقّ الهنود الحمر، ممن لا يُخفى على أحدٍ، مقدار وحشيّة الغزو الذي تعرّضوا له، وسعى إلى إبادتهم، وليس فقط عبر ما مورس ضدهم من مذابح كارثيّة، وإنما أيضاً، عبر ما تمَّ نقله إليهم من الفيروسات والأوبئة، ناهيك عن عملية الاسترقاق التي شهد التاريخ والعالم ولا يزالا، بربريّتها وعنصريّتها، التي مثلما استهدفتهم، استهدفت غيرهم من الشعوب، ولاسيما الأفارقة السود.
كلّ هذا وسواه، دفع «موران» لفضح الثقافة البربرية- الهمجية التي لا يمكن أن يكون من يمارسها إنسانياً ولا أخلاقياً، والتي وجدها نوعان: «النوع الأول هو همجية الحرب والقتل والاغتيال والاحتقار، التي لا تأتي من الداخل بل من الخارج، عبر الصراعات التي تتضاعف، والتي من المُرَجَّحِ أن تُصبح واسعة الانتشار.. النوع الثاني، يأتي من داخل حضارتنا الغربية.. ماذا يعني ذلك!.. إنه يتجلى في ما تُسَمونه التَّسليع، أو أولوية الاقتصاد الذي يمكن رؤيته أيضاً، من زاوية أولوية الحساب والربح اللذان يُنْهِكَان الحضارة، لكن انتبهوا!. عن أيّ حضارة نَتَحدّث؟!!!.
أعلم جيّداً أن الحضارات الأخرى لها هَمَجِيّتها الخاصة بها، والتي تتجلّى في سُلطويتها غير المشروطة، ولا يتعلّقُ الأمر بسلطتها اللاهوتية فقط، ولكن كذلك بسُلطة الأب المستبِد..
هذه الهمجية التي تتجلى في السُّلطوية والاحتقار والازدراء، مازالت تقاوم من أجل البقاء.. بعبارة أخرى، رغم ما تحظى به الحضارات التقليدية من مزايا، فما زالت تحتفظ بهمجيتها الخاصة بها، وفي سياق حضارة كنا نعتقد أنها تقوم على الحرية والمساواة والأخوة، فقدنا تدريجياً العديد من المزايا الموجودة في هذه الوصفة؛ أقول إن هذه الهمجية تَتَمَثَّلُ في الحِساب الاقتصادي والرّبْح، والمقصود تحديداً أو بشكل ملموس، تسليع جميع السلوكيات البشرية»..
أما عن البربريّة التي وجدها «موران» حديثة ومستمرّة، ومنذ الانطلاقة العالميّة للحضارة الغربيّة، فهي السعي إلى التصفية التدريجيّة للمجتمعات الصغيرة، وذلك عبر التدمير والتطهير والإبادات الجماعيّة..
كلّ ذلك، يدلّ على استمرار البربريّة، ومواكبتها للاستراتيجيّات السياسيّة التي تهدّد من يعارضها أو يواجهها.. تماماً كما في هيروشيما وناغازاكي، وغيرهما مما جعله يكرّر قوله: «إن حدوث الأسوأ، أمر ممكن دوماً»….
إذاً، وكما يختم «موران»: يجب أن يَفسح الاشتغال على الذاكرة، مكاناً لانحسار تسلّط البربريّات: الاستعبادُ، النخاسة، الاستعمار، العنصريّة العرقيّة، وإدراج هذا التسلّط في الوعي الذي يدين أوروبا، ويتجاوز ممارساتها الهمجية بحقّ الشعوب.
إنه شرط ضروري لتجاوز المخاطر الجديدة للبربرية، فلا شيء إلا ويمكن التحوّل إلى ضده، والتفكير في البربريّة هو مساهمة في إحياء الإنسيّة، وإحياء الإنسيّة يعني مقاومة البربريّة»..

التاريخ: الثلاثاء10-8-2021

رقم العدد :1058

 

آخر الأخبار
ضخ المياه إلى شارع بغداد بعد إصلاح الأعطال الطارئة أعطال كهربائية في الشيخ بدر.. وورش الطوارئ تباشر بالإصلاحات الجولات الرقابية في ريف دمشق مستمرة لا قضيّة ضد مجهول.. وعيونهم لا تنام الأدفنتست" تعلن بدء مشروع "تعزيز سبل العيش" في درعا "تاريخ كفر بطنا ".. خربوطلي : من أقبية الفروع الأمنية بدأت رحلتي  نيويورك تايمز: المقاتلون الأجانب بين تقدير الثورة ومخاوف الغرب سوريا تستعد للعودة إلى نظام "سويفت" بعد عزلتها المالية مفوضية اللاجئين تُعلن وقف دعم اللاجئين السوريين في لبنان الخير يعم بصفاء النفوس أجواء العيد.. إشراقة فرح تتحدى الظروف الوزيرة قبوات عن حادثة حماة: حماية الطفل مسؤولية وواجب وطني العيد قيمة روحية وإنسانية شكوى طبيبة في حلب تُقابل بتحقيق مسؤول واستجابة فورية حلب.. توثيق العلاقات بين المدن السورية واليونانية تعنيف طفل على يد قريب في حماة يفتح ملف العنف الأسري الداخلية السورية تُنظّم زيارات للموقوفين وتُخفف معاناة الأسر مسؤولان أوروبيان: سوريا تسير نحو مستقبل مشرق وتستحق الدعم الرئيس الشرع يكسر "الصور النمطية" ويعيد صياغة دور المرأة هولندا.. جدل سياسي حول عودة اللاجئين السوريين