الملحق الثقافي:غسان كامل ونوس *
بشفافيّة ومسؤوليّة، أعترف بأنّني أشعر أحياناً، أنّ هناك من ينظر شزراً؛ حنقاً أو عتباً، أو شفقة، حين أتحدّث في الثقافة، وأنشغل بهمومها ومساراتها وانفعالاتها المتنوّعة متعة وشقاء؛ بل حتّى حين لا أتحدّث في أمر ثقافيّ؛ وفي الواقع أنا حريص ألّا أتناول الموضوعات الثقافيّة كثيراً، في غير بيئتها؛ احتراماً للثقافة ولنفسي ولمشاعر الآخرين! هم الذين يُبدون أنْ لا علاقة لهم بهذا الأمر؛ على أنّني لا أرى ذلك؛ بل إنّني على يقين، من أنّ كلّاً منّا في حاجة إليها، في أيّ مكان، وفي كلّ حين. ولكن قد تظهر ردود أفعالهم هذه الصامتة والصائتة، نتيجة ما يلاقون من حال معيشيّة صعبة، مع السعي الجادّ والحثيث والمتّصل للّحاق بما يُقيت، ويؤمّن للأسرة أبسط مستلزماتها.. لا شكّ في أنّ هذا ضاغط على كثيرين، ونحن منهم بلا أدنى شك، ولسنا في برج معلّق، أو ننعم ببحبوحة أو غبطة أو ترف، من المشاعر والأحاسيس والعواطف والرؤية والوقت والحاجة، حتّى لا نتحدّث في هذا، أو لا نغالي في الحديث؛ وصاحب الحاجة أرعن! أو لا نكرّر الكلام ذاته، والشكوى والتذمّر، والتعبير المتواصل عن ذلك؛ كما يفعلون في كلّ حيّز: البيت والدائرة والمدرسة والسوق والحافلة، وربّما وهم وحيدون؛ فقد يتحدّث المرء إلى نفسه، في ما يُقنطه، لعلّها تواسيه؛ «وكيف يواسي القلب من لا له قلب؟!» حسب قول شوقي على لسان مجنون ليلى! وقد يوجّه إلينا مثل هذا القول بوضوح، أو بتلميح، أو بصمت أقسى! وما هذا بأمر عاديّ أو مريح، ويجب ألّا يصبح مألوفاً.. وتزداد الصورة قتامة، حين تفكّر في كثيرين ممّن يُدعون بالمثقّفين، وتتعامل معهم، وتقارب اهتماماتهم وانشغالاتهم وأفكارهم، وتنظر في ما يقدَّم في اللقاءات الثقافيّة العديدة، وحين ترى إلى بعض العاملين في الإدارات الثقافية، والدوائر والمؤسّسات الثقافيّة، والإمكانيّات المتاحة لصناعة الثقافة، وحين تتابع النتاج الثقافي، الذي يتعرّض لعسر وتأخّر في الولادة لدى المؤسّسات المختصّة؛ بسبب الورق، والكلفة في الطباعة والنقل والتوزيع، ويتعرّض بعض هذا النتاج «الثقافي» لدى متسرّعين أو مستسهلين أو مدّعين، لولادات قبل أوانها، فيكون الوليد- أو وليّه- من ذوي الاحتياجات الخاصّة؛ بالمعنى الثقافيّ! وحين تطّلع عن كثب على رأي المسؤولين عامّة بالثقافة، وتلمس تردّدهم أو تقصيرهم أو خذلانهم في دعم العمل الثقافيّ وتأمين متطلّباته، وتيسير إنجازه؛ وحين تنظر إلى الحاضرين النشاط الثقافيّ على قلّتهم، وتعرف كيف حضروا ولماذا، ومن أين، وحين تنال المكافآت الشحيحة على الجهد الثقافيّ المبذول كتابة أو تحضيراً أو إلقاء، أو الإسهام في الفعاليّة الثقافيّة، التي شاركت فيها، أو قدّمتها… حين تتقرّى كلّ ذلك، وتسمع، وتتابع مثيلاته وسواه، ستشعر باليأس، وربّما تضعف لديك الحماسة للمتابعة والاستمرار؛ فكيف تسعى؟! ولمن تجهد، وعلامَ تشقى إذاً؟! ولماذا هذا الاندفاع والانغماس في الهمّ الثقافيّ إلى درجة الهوس، فتترك كلّ شيء آخر من أجل الثقافة؟! لولا أنّ لديك هاجساً، لا يبرح ملكاتك، وقناعة لا تهن، ورؤيا لا تتشظّى، بأهمّية الفعل الثقافيّ وجدواه، ولولا أنّ لديك إيماناً بضرورة الاستمرار في هذا السبيل، وهذا السمت، من دون النظر إلى تعويض مادّي مناسب، أو انتظار تكريم أو كسب معنويّ معزّز لموقفك ورؤيتك ومسعاك..
ولست وحدك!
لا شكّ في ذلك، وفي كلّ الشرائح التي ذكرت، والجهات التي أشرت إليها، هناك مؤمنون بما تؤمن به، حريصون على ما تحرص عليه، مثابرون مجدّون مقدّمون ومسؤولون ومشرفون ومبادرون، ومتابعون ومشاركون، ومتلقّون عن قرب أو بعد، مضحّون… وقد لا يظهرون، ولا يتباهون ببحورهم وأنهارهم الجوفيّة والمكشوفة؛ فيما آخرون يفاخرون بمجاريهم الضحلة، التي قد تكون ملوّثة، وجداولهم الشحيحة المؤقّتة، وجرياناتهم السطحيّة الظرفيّة، التي قد تفيض أحياناً؛ مخلّفة خراباً ونكبات.. ولكنّها- للأسف- تحسب لصالح مواسم الخير، الذي سيعمّ الكائنات في الأحياز القريبة، والبعيدة!
وفي هذا الواقع الثقافيّ، الذي لا يسرّ، ولا يساعد، ولا يحفّز، لن تتباطأ، ولن يتوقّف أمثالك، ولن ينسحب أقرانك في كلّ ميدان ثقافيّ، وغير ثقافيّ، رسميّ أو غير رسميّ، مدعوم من أصحاب الرؤى الخيّرة، أو متروك للبذل الشخصيّ؛ فالثقافة تعمّ فعلاً، وتصل إشعاعاتها مختلف المواقع والأركان..
ولهذا وذاك؛ فلا تستطيع إلّا أن تغتبط، وتفرح، لقاء أيّة مبادرة كريمة، أو كوّة ضوءٍ باثّة، أو جهود تبلغ مستوى التضحيات، حين لا يتلقّى أصحابها، ولا ينتظرون أيّ تكريم مادّيّ، ولا معنويّ؛ لأنّهم بعيدون عن المحسوبيّات، والتبعيّات وغسيل الجيوب والوجوه، وتلميع مسؤول أو ترفيع منصب..
صغار وكبار يتنادون للقاء ثقافيّ محض، يقدّمون ما لديهم، ويستمعون إلى سواهم من الزوّار والضيوف، ويقال فيه ما يجب أن يقال، أو ما يُحسّ أنّه ضروريّ ولازم ومفيد ومجدٍ، أو، على الأقلّ، ما يفكَّر به أو يهجس، بهدوء وانتباه وانشداد للحضور والمتابعة والاستمرار سنوات؛ تلكم هي حال المنتدى الأدبيّ التابع للمركز الثقافيّ العربيّ في صافيتا، والمنتدى الأدبيّ في سنديانة عين حفاض، في منطقة صافيتا.
اللافت في الأمر أنّهما ثمرة جهود أغلبها شخصيّ، واندفاع ذاتيّ، ورغبة، وبحث عن الكيانات الشخصيّة والجمعيّة المؤثّرة، والحضور الحيويّ الفعّال في المجتمع والمحيط والواقع والحاضر والمستقبل..
على الرغم من انسحاب أو تردّد، أو تبرّم، ومحاولات تشويش مقصودة وغير مقصودة، وظهورٍ مدّعٍ، وأنانيّة ومصلحيّة في أوقات ومناسبات، لكنّ الإصرار والعزيمة والجدّيّة لدى الغالبيّة، جعلت الأمور تمضي إلى أمان، وبنتائج مبشّرة ومُرضية في كثير منها.
وإذا كانت الحال متباينة بين المنتديين، لجهة الاهتمام المستمرّ بالمواهب الناهضة ومتابعتها والحضور الأسرويّ والمنوّع، في المنتدى الثاني، والنضوج والبحث عن الأفضل في الفكر والأدب والثقافة، والحضور النوعيّ من أصحاب الكار، في الأوّل، فإنّ ما يجمع مرتاديهما والمشرفين عليهما، نبل الغاية، وصدق الطويّة، والحرص على الاستمرار المجدي، رغم المناخات غير المناسبة، والأحوال الضاغطة على الجميع.
ولا شكّ في أنّ هناك كوى أخرى عديدة مشابهة وربّما أفضل، تشعّ باشتعال ذاتيّ!..
ولا نعرفها أو نسمع بها، لأنّ الإعلام لا يَرى، ولا يصوّر، ولا يغطّي، أو ينشر شيئاً عن ذلك، إلّا في ما ندر..
إنّهم طلّاب معرفة، وصنّاع ثقافة، حسب إمكانيّاتهم، وأصحاب همم ورؤى وتطلّعات، وقناعات بأنّ البقاء للأصلح؛ واثقون بأنفسهم، وبما لديهم، وبما يريدون، مضحّون بأوقاتهم وجهودهم وطاقاتهم وأموالهم، في سبيل الأفضل والأرقى والأجدى والأبقى…
* شاعرٌ وأديب وقاص
التاريخ: الثلاثاء10-8-2021
رقم العدد :1058