الملحق الثقافي: آنا عزيز الخضر:
الثقافة صمامُ أمانِ المجتمع، هي من تحميه وتحصّنه، وترسّخ الوعي وقيم الانتماء فيه، وهي أيضاً تحمي الأخلاق، والمثل العليا الكفيلة بالحفاظِ على المعايير الأمثل لسلامة الحياة، وكلّ ما من شأنه التأسيس لمجتمعٍ قويّ سليم، يدافع عن أبنائه في كلّ المجالات، وفي أيام الحرب والسلم..
الثقافة تبني وتسمو بوعي الإنسان، وتجعله قادراً على أن يبقى في يقظةٍ دائمة، حتى ﻻ يمرّ الأعداء من نقاطِ الضعف لديه، ومن هذه النقاط، الانحياز لقيم الثقافة الاستهلاكية، تلك التي تنخر القيم الراسخة في المجتمع، وتعمّم لمفاهيم الأنانية والفردية والرفاهية، بعيداً عن الأحساس بالآخر، وغير ذلك من القيم الهدامة..
من هنا أكد سيادة الرئيس بشار الأسد أهمية محاربتها، حفاظاً على المجتمع وحصانته، وقيمه وأخلاقه ورقي مكانته. وفيما يلي ولضرورة سعينا جميعاً لمحاربة هذه الثقافة، بعض آراء المثقفين بموضوع الثقافة الاستهلاكية، الكاتب فهد مرعي قال:
الفرق كبيرٌ بين صناعة الثقافة وصناعة الترفيه، فالثانية وقتية استهلاكية، لا يبقى منتوجها في الذاكرة طويلاً، سريعة العائد المادي، رغم أنها صناعة ناجحة ولكن لا تستمر. وغير ذلك هي تقوم على تسطيح الأفكار داخل المجتمع. في حال كانت تلك الثقافة قائمة على الترويج لأفكار هدامة، أو بلا معنى لا يستفيد منها المتلقي، وهذا ما أطلق عليه بعض المثقفين ثقافة التفاهة، وما تناوله الفيلسوف الكندي «آلان دونو» في كتابه «نظام التفاهة»، حيث أجاب عن الكثير من التساؤلات التي يطرحها الأذكياء، ويتأملها الحكماء بعينٍ ثاقبة، حول الأسباب التي جعلت الكثير من جوانب حياتنا تسير بالاتجاه المعاكس، لتنحو نحو السطحية والفوضوية، إذ تحيط بنا كمّيات هائلة من السلوكيات المفرّغة من محتواها، نتيجة غلبة أنانية الاهتمام بالشأن الخاص، الذي يؤدي إلى التفكّك والتشرذم، بعيداً عن القيم الإنسانية، ودون إيلاء أي اعتبار للشأن العام، الذي من طبيعته أنه يتّسم بالإيثار، ويؤدي إلى التماسك والانتاج والتميز والإبداع، وكما جاء في موضوع التملك والكينونة في كتاب عالم الاجتماع الألماني «إيريك فروم» الذي حمل عنوان «الإنسان بين الجوهر والمظهر»، والذي ركز على أفضلية أن ننجز وجوداً إنسانياً بدلاً من تحقيق ثروة تفتقر إلى القيم وتستبعد المشاركة، علماً أن تعريف التفاهة يشير إلى «ذلك العمل الذي يقوم به صاحبه المفرّغ من أيّ قيمة أو أصالة أو إبداع»، انطلاقاً من الانحدار الذي أصاب سلوك عدد من الأفراد، وانعكاسه السلبي في المجالات التي فرضوا وجودهم فيها، بل وغدت تلك التفاهة بمثابة الثقافة التي يسعى الفاشلون إلى فرضها على واقعِ حياتنا، لتؤثر بشكلٍ أو بآخر على مستقبل المجتمع والذوق العام الذي يحكم سلوك أفراده.
يؤكد «دونو» في جوهر كتابه، أننا نعيش فترة تاريخية تتّسم بسيطرة التافِهين، حيث الصعود الغريب لقواعد الرداءة والانحطاط، في ظلّ تدهور الجودة وغياب الأداء الرفيع وتهميش نظام القِيَم، ومن ثم صعود نظام التفاهة وفرض وجودها القوي على المجالات المختلفة في حياتنا، ورؤية كهذه لم تنطلق من فراغٍ، بل هي نتيجة علمية للواقع الذي نعيشه، حيث غياب وتهميش منظومات القيم، والسلوك الذي لا يلبي متطلبات النهوض الفكري، ولا يسهم في التطور، كونه لا يولي أيّ أهمية للمعايير الدينية والقانونية والاجتماعية القائمة على الالتزام بالأسس القوية، التي تسهم في بناء الإنسان ورقيه، لا تهديمه وتشتته وتخلفه بسبب استنادها الى «النيوليبرالية» التي أطلقها الاقتصادي الألماني «ألكسندر روستوف»، والتي تقوم على المال والمصالح، بعيداً عن أيّ قيمة أخرى، ما ينجم عنه «ازدياد الأغنياء غنىً والفقراء فقراً»، وقد فرضت هذه الصورة نفسها حالياً على جميع المفاصل، في غفلة من المثقف وأدواره الاستراتيجية، نظراً لسياسة التهميش الممنهجة له، واختصار مسؤولياته، وتعويضه بالخبير أو جماعة الخبراء أو التكنوقراط، لتدبير الأزمات فقط، وليس تحليل وتفكيك المجتمع وبنائه على أسسٍ صلبة، تجعل من الإنسان جوهراً وقيمة أساسية في المعادلات الصعبة، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، ولأنها – أي النيوليبرالية، إيديولوجية العالم الجديد، أي إنها الفلسفة التي ترى أن المنافسة هي السمة المميزة للعلاقات الإنسانية، باعتبار العلاقات الإنسانية هرم متسلسل من سوق يجمع الرابحين والخاسرين معاً، وبالتالي سيادة رفاهية الأغنياء أصحاب المشاريع الربحية، على حساب أفراد المجتمع، ولصناع التفاهة قانونهم الخاص المتمثل بالقفز على الحقائق، بمساعدة أشخاص ومكننة إعلامية قوية، يدعمهم في ذلك نفوذ المال والسطوة والحرية غير المسؤولة، والهدف تحقيق برامجهم وتبرير الأخطاء الجسيمة التي ترتكب وتؤدي إلى إزهاق أرواح أو إهدار أموال، في مشاريع فاشلة أو وهمية، أو تبييض أموال بفعل الفساد بصوره المتعددة، وبوسائلٍ مختلفة، بل لتلميع صورة أشخاص فاشلين رغم انفضاحهم بالحقائق وكشف الازدواجية بين تصريحاتهم والواقع الفعلي لأدائهم على الأرض، أو إهانة أفراد بطرق وأساليب مختلفة بفرض سياسة الأمر الواقع، ودعمها بقرارات غير منصفة لصالح فئات على حساب أخرى، وينسحب ذلك في انعكاس ثقافة مراسلي وسائل التواصل الاجتماعي الرخيصة، على سلوك الكثيرين ممن لا يمتلكون القدرة في السيطرة على انفعالاتهم، وبالتالي تأثرهم السهل بما يتم بثه من رسائل مفرغة من محتواها، وإسقاطها عبر تصرفات شاذة في المجتمعات التي يعيشون فيها، سعياً لجعلها ثقافة عامة، وفي هذا الإطار يرى أستاذ دراسات التاريخ والأفلام والإعلام في جامعة كاليفورنيا «مارك بوستر»، أن تكنولوجيا الواقع الافتراضي قد حملت إشكاليّتين رئيسيتين لمتابعيها وروّادها، هما إشكالية الحقيقة بسبب تعدُّد صور الحقائق والمصادر، فالخبر أصبح له مئة مصدر، وإشكالية الذات عبر قيام وسائل التواصل تلك، بإشباع حاجات الأفراد الاستهلاكيّة من الأخبار والصور».. كما عُكست صور التفاهة بالتعرض الخطير للسلوكيات الهجينة وتداعياتها على المدى البعيد، حيث الانجرار وراء مؤثرات الأداء والصوت والصورة واللون، في الأفلام والدراما والأعمال المسرحية والبرامج والأغاني التي تستخدم عبارات وإيحاءات وحركات، مفرغة من مضمونها التربوي والأخلاقي، وتسيء إلى الذوق العام، وهي تشكّل في جوهرها خروجاً عن الأعراف والتقاليد والقيم الاجتماعية النبيلة، وينسحب ذلك على بعض السلوكيات غير السوية في الشارع، والعلاقات بين الناس والمؤسسات المختلفة، بل وإلى العلاقات داخل العائلة الواحدة، حيث المصالح التي تؤدي إلى تهديم حياة أفراد وأسر ومجتمعات..
ما يتميز به أصحاب هذه الثقافة، أنهم يخلقون الحجج لإيهام أنفسهم قبل الآخرين، بالرضا والقبول، وبالتالي سعيهم لفرض أسلوب الخداع وعدم المصداقية في سلوكهم على الآخرين، أو كما يقول المثل «الضحك على الذقون» بأسلوب ساذج، معتمدين في ذلك على وجود الحاضنة التي تتقبّل ما يتمّ بثّه من رسائل، في ظلّ غياب مستوى الوعي والتفاعل العاطفي للكثير من أفراد المجتمع، الذين لا يبحثون عن جوهر الموضوع، بل عن شكله نتيجة الفراغ الفكري الذي يعانون منه.
التاريخ: الثلاثاء10-8-2021
رقم العدد :1058