الثورة – لينا شلهوب
الوطن ليس مساحة جغرافية فقط، بل نسيج إنساني دافئ، يحتضن الجميع على اختلاف مشاربهم.. وفي حين تتقاذفنا التيارات السياسية والمصالح المتباينة، يبقى صوت رجال الدين المعتدلين أحد الأصوات التي يمكن أن تنقذ ما تبقّى من لحمة وطنية مهددة، وترمّم ما تصدّع من جسور الثقة بين مكوّنات المجتمع، فهل يستطيع رجال الدين أن يكونوا سدنة السلم الأهلي؟ وهل بإمكانهم إعادة ترسيخ مفهوم التآخي بين أبناء الوطن الواحد كقيمة دينية وإنسانية لا تقبل التنازل؟.
صحيفة الثورة التقت عدداً من رجال الدين للحديث عن السلم الأهلي، وأهمية التآخي بين أبناء الوطن الواحد، ودور الدين في نشر ثقافة السلام والتسامح، وكانت تأكيدات أن الدين- حين يُفهم ويُمارس بشكل سليم- هو من أقوى أدوات ترسيخ السلام الأهلي وتحصين المجتمعات.
أكثر من مجرد هدنة
في زمن تتسارع فيه التحديات، وتتعالى فيه الأصوات التي تحاول تمزيق النسيج الاجتماعي، تبرز الحاجة إلى صوت الحكمة، صوت الدين، صوت التآخي، فالسلم الأهلي ليس مجرد شعار، بل هو قاعدة لبقاء الأوطان وازدهارها، بهذه العبارات بدأ الشيخ كمال عماد- أبو إيهاب، أحد مشايخ طائفة الموحدين في محافظة السويداء- حديثه، شارحاً مفهوم السلم الأهلي، أنه لا يعني فقط غياب الحرب، بل يعني حضور العدالة، وقبول الآخر، وبناء جسور الثقة بين أبناء المجتمع، وهو جوهر الدين، لأنه لا يمكن لمجتمع أن يُقيم شعائر الإيمان في ظل الخوف والتفرقة، مبيناً أنه من على المنابر، علينا أن نذكّر الناس أن الخلاف لا يُفسد العيش، وعدم المطالبة بإلغاء الاختلاف، بل أن يديروها باحترام ومسؤولية، ويؤكد أن المسجد والكنيسة والمنابر الدينية يجب أن تتحول إلى منصات للتوعية والتربية على القيم المشتركة، بعيداً عن الشحن السياسي أو الاستقطاب الطائفي.
الخطاب الوطني
ويبين الشيخ أبو إيهاب، أن العديد من المبادرات الوطنية حول السلم الأهلي تفشل لأنها تُقدَّم بلغة رسمية باردة، أو تُدار من نخب بعيدة عن الواقع اليومي للناس، في المقابل، فإن رجل الدين يدخل البيوت من باب الروح، ويتحدث إلى الضمير، ولهذا فإن كلمته- حين تكون نزيهة- أكثر وقعاً وأطول أثراً، ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح لرجال الدين مساحة رقمية واسعة يمكن استخدامها لبث رسائل الاعتدال والتآخي، بدلاً من أن تتحول إلى منابر للفتنة كما حدث في بعض التجارب المؤلمة، إذ إن الصراع الطائفي لا يولد من الدين، بل من توظيف الدين سياسياً، وفي القرآن الكريم، كما في الإنجيل، دعوة واضحة للرحمة والتعاون، ونحن نحاول ترسيخ ذلك في برامجنا الدعوية والتربوية.
تحت مظلة الحوار
في لقاء جمعنا بأحد مشايخ الطائفة المعروفية، وأحد علماء الدين الشباب وهو من مدينة جرمانا بريف دمشق الشيخ موفق أبو شاش- أبو صالح ، حملت كلماته نفس المحبة والوطنية، وكانت دعوة صريحة إلى وحدة السوريين تحت مظلة الحوار والعدالة، بعيداً عن الإقصاء والفرقة، لافتاً إلى أن طاولة الحوار هي الطريق إلى سوريا المستقبل، فالتقوى هي المعيار، وهي محبة الله، وهي الرحمة، وليست التناحر والكراهية.
مصدر محبة لا كراهية
الشيخ أبو صالح شدد على أن الدين لا يمكن أن يكون أداة للقتل أو الإقصاء، فالدين رحمة وليس حكماً على الناس، وأضاف: ما يحدث من سفك دماء وقتل للنساء والأطفال لا يمت بصلة إلى تعاليم الإسلام، ولا إلى أخلاقنا المعروفية، التي لطالما كرّمت الضيف، واحترمت الإنسان، ورفضت الاعتداء، موضحاً: نحن كطائفة موحدة نرفض القتل بكل أشكاله، ونحرّم الاعتداء علينا، كما نحرم الاعتداء منّا، وخلال السنوات الماضية، كثيرون من إخوتنا في المحافظات الذين هربوا من الاقتتال، قصدونا، فأسكنّاهم في بيوتنا لا بالخيام.
ومن رحم المعاناة التي تعيشها البلاد، دعا الشيخ أبو صالح إلى حوار وطني شامل، إذ قال: نحن بحاجة إلى طاولة مستديرة، أبناء وطن واحد متساوون، نجتمع فيها لنؤسس لسوريا المستقبل، يشارك فيها الجميع، مشدداً أن الخلاف لا يجب أن يتحول إلى خصام، وأن الحوار يجب أن يستمر لأن الغاية هي الوصول إلى العدل، والعدل أساس الملك، كما قال سيدنا عمر بن عبد العزيز.
وأكد على أن كل السوريين- مهما اختلفت طوائفهم- يجمعهم الله والوطن، مردداً ما قاله سلطان باشا الأطرش: الدين لله والوطن للجميع، واستشهد بقول النبي محمد ﷺ: لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى، لذا نحن لا نُقصي أحداً، لا نُكفّر أحداً، ولا نلغي أحداً، بل نؤمن أن في كل إنسان نفساً خلقها الله، ويجب احترامها.
وأطلق الشيخ أبو شاش نداء للسوريين: عودوا إلى بعضكم، لا تجعلوا الكراهية تزرع في قلوبكم، فالله لا يحب القلوب المليئة بالحقد، إذا أردنا أن نكون قريبين من الله، يجب أن نكون قريبين من بعضنا البعض، ونعيد بناء وطننا، بيد واحدة وعدالة شاملة.
التآخي بين أبناء الوطن
نحن لا نحتاج إلى مؤتمرات، بل إلى مواقف صادقة من رجال الدين في المساجد والكنائس، بهذه العبارة افتتح الشيخ عبد الله شلهوب- أبو حسين حديثه، مشيراً إلى أن المواطن البسيط يتأثر بما يسمعه من إمامه أو كاهنه أكثر مما يتأثر بما تقوله النخب السياسية، لذلك فالدين يجب أن يكون جامعاً لا مُفرِّقاً، لقد نجح البعض في تشويه صورة الدين من خلال ربطه بالعصبية أو الطائفية، بينما النصوص الدينية الأصلية تؤكد على مفهوم الأمة الجامعة، والشعب الواحد رغم التنوع، كما لفت إلى أن السلم الأهلي واجب ديني وأخلاقي، وكل خطبة يجب أن تُذكر الناس أن التعايش ليس خياراً، بل فريضة، من لا يسعى للسلام بين الناس، فقد خالف جوهر رسالات السماء.
يتابع الشيخ أبو حسين، لا بد من الاعتراف أن الأديان، حين تُفهم بشكل سليم، تُشكّل جسراً بين البشر لا خندقاً بينهم، وفي الإسلام، يقول النبي محمد ﷺ: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وفي المسيحية، ترد أعظم الوصايا: أحبب قريبك كنفسك، هذه القيم يمكن أن تكون أساساً لمناهج تعليمية، وخطب دينية، ومبادرات اجتماعية تعزز الانتماء للوطن من دون الحاجة إلى إلغاء الانتماء الديني أو المذهبي.
ضرورات وطنية
في المقابل، يرى الأب ميشال خوري، أن المسؤولية الملقاة على عاتق رجال الدين أكبر من أي وقت مضى، موضحاً أنه في كل مرة نختار الصمت أمام خطاب الكراهية، نكون شركاء ضمناً في إشعال الفتنة، والدين المسيحي كما الإسلامي دعانا إلى المحبة، إلى المسامحة، إلى أن نحب من يختلف عنا كما نحب من يشبهنا، هذه ليست دعوات مثالية، بل ضرورات وطنية، والديانات السماوية كلها دعت إلى المحبة والتسامح، نحن أبناء وطن واحد قبل أن نكون أتباع طوائف، ودورنا كرجال دين أن نذكّر الناس بذلك دائماً، لا أن نكون جزءاً من الخطاب المتوتر أو السياسي، وتطرق إلى أنه رغم بعض الأصوات المتطرفة، فإن الغالبية العظمى من رجال الدين، ترى أن التعددية نعمة لا نقمة، وأن الوطن يسع الجميع إذا غُلّبت مصلحة الإنسان والعيش المشترك على المصالح الضيقة.
بناة وعي
في زمنٍ يضجّ بالصراعات والانقسامات، تبقى رسالة الدين- حين ترفع بنزاهة- قادرة على إطفاء نيران كثيرة، لأن رجال الدين ليسوا فقط مفسّرين للنصوص، بل هم بناة وعي، ومُعدّو الأجيال، وإن أخطر ما يمكن أن يحدث هو أن يصمتوا حين يجب أن يتكلموا، أو أن يتكلموا بلغة تؤجّج لا تداوي، فالوطن لا يبنى بالخطب فقط، بل بالمواقف، والمواقف تبدأ بكلمة حق، في وقت لا يحتمل المواربة.
وفي ظل تعقّد المشهد الاجتماعي والسياسي، يبقى السلم الأهلي خط الدفاع الأول لبقاء الوطن، ودور رجال الدين حين يمارس بوعي ومسؤولية، قادر أن يحدث فارقاً حقيقياً في العقول والقلوب.