بغض النظر عن توصيف الانسحاب الأميركي من أفغانستان بأنه هزيمة، أو مخطط مدروس أعد له منذ سنوات كسيناريو يستهدف الدول المجاورة “إيران والصين وروسيا”، إلا أن تداعياته ستفرض تأثيراتها بقوة على مسار العلاقات الدولية، حتى بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين، وبكل تأكيد فإن أميركا لم تنسحب من هذا البلد لتتخلى عن مصالحها فيه، وإنما التحكم بمجريات الأحداث هناك عن بعد للتخفيف من حجم الخسائر المادية والبشرية التي تتكبدها كل يوم.
من خلال التطورات المتلاحقة عقب سقوط كابل بيد “طالبان”، وكيفية التعاطي الأميركي والأوروبي يبدو جلياً أن الغرب لا تهمه على الإطلاق مسألة محاربة الإرهاب، ولا يعنيه مصير الشعوب المستهدفة بحروبه الاستعمارية، ولا يكترث بالمطلق لما تخلفه تلك الحروب من دمار وتخريب، وإنما الهدف الحقيقي هو سرقة ثروات الشعوب، والسيطرة على قرارها لتكون تابعاً لسياساته، ومنفذاً لأجنداته التوسعية، فنلاحظ أن أميركا وشركاءها الأوروبيين في “الناتو” ينحصر همهم اليوم في كيفية إجلاء دبلوماسييهم ورعاياهم و”كلابهم البوليسية”، ويستجدون “طالبان” تمديد الموعد النهائي للانسحاب، و في الوقت نفسه يتنصلون من مسؤولياتهم إزاء الأزمة الإنسانية المتفاقمة من جراء فرار عشرات آلاف الأفغانيين من منازلهم خوفاً من انتقام “طالبان”، وتركهم يواجهون مصيرهم المجهول.
الانسحاب، أو الفرار الأميركي، وسع أيضاً هوة الثقة بين واشنطن وحلفائها، ليبدو التابع الأوروبي تائهاً بين مواصلة الانجرار خلف السياسة الأميركية، أو التخلي عنها توجساً من لحظة غدر تتخلى فيها الولايات المتحدة عن شركائها التقليديين الذين تقحمهم في كل أزمة تفتعلها على الساحة الدولية، فهي تخلت عنهم في مطار كابول، بحسب تأكيد مفوض السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل الذي قال: إن إجراءات المراقبة والأمن التي يفرضها الأمريكيون في المطار مشددة جداً، وهي تعرقل مرور الموظفين الأوروبيين، ولعل دعوته لإنشاء جيش أوروبي لمواجهة أزمات أخرى محتملة، بشكل مستقل و بعيداً عن الولايات المتحدة، يشير إلى قلق أوروبي عميق من إمكانية أن تدير واشنطن ظهرها لشركائها بأي لحظة تقتضيها مصالحها الضيقة، حتى على حساب مصالح حلفائها.
أميركا وحلفاؤها، لم يحاربوا الإرهاب في أفغانستان، وإنما ساعدوه على الانتشار والتمدد ليكون أداتهم في استهداف الدول التي تناهض سياساتهم الاستعمارية، كما هو الحال في سورية والعراق، وهم يستثمرون في هذا الإرهاب المتعدد الأشكال والتسميات لنشر الفوضى وتعميمها على الساحة العالمية، وليكون معيناً لهم في تثبيت هيمنتهم الأحادية، ولكنها واشنطن تتجاهل المتغيرات الدولية الحاصلة لجهة تنامي قدرات الدول الرافضة لنهجها الاستعماري، ولا تأخذ في الحسبان خيارات الشعوب المقاومة لمشاريعها الاستعمارية ، ولها أن تمعن في نتائج صمود سورية، وما يبنى عليه من تعزيز التحالفات الاستراتيجية بين الدول التي تتصدى لنهجها المتغطرس، حتى تدرك بأن كل مشاريعها العدوانية والفوضوية مصيرها الفشل.
من نبض الحدث- ناصر منذر