هذه الثنائية بين الوجود والعدم التي تفرد جناحاً فوق الحياة، وآخر فوق الموت وردت في كثير من صفحات الآداب المحلية، والعالمية شعراً أكانت أم نثراً، كما تجسدت في الفن من رسم، وموسيقى، ودراما.. وتناولها كبار الكتّاب، والشعراء في سبر للذات الإنسانية نتيجة المفارقة بين نبض الحياة المتدفق، والخوف من الموت ذلك المجهول الذي ينتهي إليه كل البشر.
ثنائية تتعلق بهاتين الحقيقتين، الولادة والموت، وهما تشغلان حيزاً من تفكير الإنسانً على الصعيد الفردي، كما الأسري، وكذلك الاجتماعي، وما تعنيه على الصعيد الديني أيضاً.. منذ (ملحمة جلجامش) البابلية وصولاً إلى الروايات العالمية التي رصدت هذا الموضوع ومنها ما تحول إلى السينما كرواية (الحرب والسلم) التاريخية مثلاً للكاتب الروسي الكبير (ليو تولوستوي) قبل قرن ونصف من الزمن، وهي واحدة من تلك النماذج الأدبية التي امتزجت فيها سعادة الحياة، مع مأساة الموت.
عندما نقرأ تلك الأعمال الأدبية تسير بنا أحداثها متسارعة نحو إحدى هاتين الحقيقتين لنقف في مواجهتها عبر الكلمات، بينما الأحداث في الحياة الواقعية أبطأ بكثير، وأقل تشابكاً منها في قصة، أو رواية.. لكن هذا الأمر لم يبق على حاله فالزمن تسارع بنا لتغدو حياتنا كما في الروايات نلتقي في نهاية نفقها بأخبار الموت التي أصبحت تتوالى دون هوادة سواء بتأثير حروب، أو نزاعات، أو أرض غاضبة تعبر عن غضبها بالكوارث البيئية، والوبائية، نتيجة ما اقترفته يد الإنسان بحقها.. ولتغدو تلك الثنائية أكثر وضوحاً واقتراباً من صفحة الحياة قبل صفحات القصص، والروايات.. فكم من الأصدقاء، والأقرباء فقدنا خلال عام ونصف، أو أكثر من جراء الجائحة الوباء حتى كادت صفحات التواصل الاجتماعي تتحول إلى ما يشبه صفحات للنعي لا أكثر.
والأدب لم يكن معزولاً عما يجري حوله فأغلب الروايات الحديثة التي صدرت في ظل الأوضاع العالمية الراهنة بات أغلبها في تشابه في ميزان ثنائية الموت والحياة، وقد عادت تلك (الثيمة) بقوة إلى بؤرة النص الإبداعي في صفحاته، وهي تعالج الأحوال من وجهات نظر متعددة، ومسافات مختلفة.
ففي عالمٍ محكومٍ بالمادة بشكل سافر، ويجعل من التنافس أمراً صعباً، وشاقاً، محفوفاً باللهاث حتى انقطاع الأنفاس، أصبحت الهزيمة فيه معادلة للموت الجسدي، أو المعنوي على حد سواء. وما طرأ من انهيارات اقتصادية نتيجة الجائحة، وتأثر الأفراد بها بشكل كبير بسبب فقد الوظائف وامتيازاتها، ما خلق واقعاً اقتصادياً مستجداً مأساوياً، يدفع ربما إلى اليأس من الحياة، والسأم، أو إلى هجرة مفاجئة للبحثً عن فرص أفضل للعيش، لكنها سرعان ما قد تتحول إلى اغتراب عن الذات أكثر منها فضاء لحياة متجددة فتعود المعادلة بالتالي إلى اختلالها في ثنائيتها.
وهذه الثنائية باتت أكثر وضوحاً في حياتنا الآن نتيجة ما يصيب العالم من كوارث بيئية، وأمراض مميتة، وضوائق اقتصادية حادة تدفع المرء أحياناً إلى الرغبة بانتفاء الحياة، وقد تصل تلك الرغبة إلى حد الميل إلى الانتحار، أو على الأقل التفكير فيه كحل، أو كنوع من الخلاص الفردي من المشكلات، والأزمات التي تعترض بدلاً من مواجهتها، والتغلب عليها، ولتصبح بالتالي فكرة الانتحار واردة على الأقل وفي شتى المجتمعات، وعلى الأخص منها تلك الغربية. ومما ساعد على ذلك كانت فترة العزل المجتمعي خلال العام الفائت، إذ لم تستطع وسائل التكنولوجيا الحديثة أن تعوض عن اللقاء الإنساني الحقيقي بين الناس، بينما الكوارث الاقتصادية التي طالت الشركات، ومعها الأفراد تنهال على الرؤوس، ولا تجد لها حلولاً مجدية تعوض الخسارة على المدى الزمني القريب قبل البعيد مما تسبب لفئة من الناس بأزمات نفسية حادة تدفع في هذا الاتجاه.. ومعدلات الانتحار في العالم أكثر ما ترتفع بين جيل الشباب الذي ينبغي أن يكون أكثر جرأة، وإيجابية، وتفاؤلاً، بل تجاوز لأزمته المعيشية التي باغتته مع مباغتة الوباء دون سابق إنذار.. وعند هذا الحد الفاصل بين الحياة والموت تجد الدول نفسها أمام أزمة حقيقية تتطلب منها وضع برامج وطنية لمنع هذه الظاهرة، أو على الأقل للحد منها كي لا يتفاقم الأمر مستقبلاً إذا ما امتدت الأزمات الاقتصادية، والوبائية.
إلا أن هذا المؤشر السلبي عندما تفقد الحياة معناها، وتصبح بلا جدوى في عين صاحبها كشكل من أشكال اليأس، والقنوط يمكن له أن ينقلب إلى ضده فتنبثق المواجهة من قلب الهزيمة كطوق نجاة، وتتحول الخسارة إلى تحدٍ كمؤشر إيجابي لمعادلة الحياة مقابل الموت.. ولا شك أن الأجيال التي سبقت قد مرت بضوائق وأزمات ربما كانت أعمق، وأعنف لكنها تجاوزتها فحققت بالتالي نقلتها الحضارية التي أوصلتنا إليها، ونعيشها الآن.. إيماناً منها بأن الحياة بناء، والموت انتفاء.. وحب الحياة هو رغبة بالبقاء، والموت مجهول حتى اللقاء.. وأنه ولو كثر الرماد، وتكدس من حول طائر الفينيق الأسطوري فهو يظل قادراً على نفض أجنحته مسقطاً عنه رماد الخيبة ليحلق من جديد رغم حقيقة ثنائية الموت والحياة.
(إضاءات) ـ لينــــــــــا كيــــــــــــــلاني