بعد اللغط الكبير، والبلبلة التي أحدثتها مواقع التواصل الاجتماعي عندما توقفت خوادمها دفعة واحدة، والأسئلة المريبة التي انطلقت حولها، والتأكيدات التي صدرت بحقها من خلال الوثائق المسربة ذاعت الأخبار بأن هذه المواقع قد لعبت دوراً خطيراً في توجيه الأطفال منذ سنواتهم الأولى، وفي الاستيلاء على عقول المراهقين وهم يتابعون دون كلل، أو ملل كل ما يُنشر، ويُعرض من أفكار، وأفلام، وصور تفعل فعلها في النفوس إذا ما عُقدت المقارنات بينها بين واقع المراهق، وبين ما يشاهده أيضاً على الشاشات من إغراءات لا يمكن له تحقيقها، مما يدفع بالتالي بعضهم إلى هاوية الانتحار يأساً، وإحباطاً، واكتئاباً.. أقول بعد كل هذا أخذت الدول الكبرى تتنبه إلى ضرورة الحد من تلاعب العولمة الرقمية في العقول، وإلى ضرورة وضع تشريعات جديدة تضبط واقعها بعد أن انحرفت مساراتها، وتحدُّ من إمكانيات القوة الهائلة للمعلومات التي أصبحت تمتلكها كبريات الشركات، وبما لا تملكه دول بأسرها.
ولما كانت شركات التكنولوجيا العملاقة تتصارع فيما بينها بشراسة ليس على العروش وإنما على التريليونات من الدولارات التي تحصدها فإن أمر ضبطها، والحد من ثقافتها التي تنشرها، وتجرف بالتالي معها العالم إلى مناطق جديدة من التاريخ البشري ليس بالأمر السهل، أو القابل للتنفيذ الفوري.. بل أبعد من ذلك إذ إن الدول نتيجة لتلك الثورة التكنولوجية ذات القفزات الواسعة، والسريعة، باتت تستخدم مصطلحات جديدة تضعها في أولويات مطالبها لحماية أجيالها الحالية، والمستقبلية من أذى المواقع الإلكترونية، وتطبيقاتها على تنوعها، مثل: (الاستقلال التكنولوجي)، و(التحرر من الاستعمار الرقمي)، و(التعافي من إدمان شبكة المعلومات)، و(العبودية الجديدة)، وغيرها.. وكلها قضايا أصبحت قيد الدرس للخروج بحلول جازمة تحسم أمر الرقمنة في تحدياتها.
ومن بين الحلول المطروحة، والأقرب إلى التنفيذ هو استقلالية مواقع التواصل الاجتماعي بحيث تستقل كل دولة بمواقعها الاجتماعية في انفصال، أو فطام عن المواقع الأم التي ثبت أنها لم تحسن احتضان أبنائها فأوقعتهم في فخاخ مصائد لا حصر لها.. إلا أن هذا الأمر يبدو أيضاً ليس من الحلول السهلة بالنسبة للدول النامية على المستوى الاقتصادي، وهي تحرص في الوقت ذاته على ألا تتأخر عن ركب الرقمية بما لها، وما عليها، إذ أنها لا تستطيع أن تقفل على نفسها الأبواب، والنوافذ التي تطل منها على العالم من حولها، وما يستجد على ساحته ما لم تنشئ لنفسها شبكات موازية ذات مزايا فتستقطب إليها أبناءها من جماهيرها.
لعله أمر يشي بفشل العولمة الرقمية التي جهدت بأن تصهر الناس جميعاً في بوتقة واحدة، لتصبح كافة المجتمعات شرقاً، وغرباً، مجتمعاً واحداً متسعاً باتساع الأرض من كل اتجاهاتها له الميول، والاهتمامات ذاتها من خلال تطبيقات التواصل التي تسري بينها، والتي تدفع شرائح من الأجيال لأن تقتدي، إن لم نقل تقلد، ما يقوم به غيرها.
هذه الظواهر التي باتت تطفو على السطح بشكل سافر فعلت فعلها في جرف أجيال ممن نشؤوا في ظل الرقمية إلى سلوكيات، وممارسات لم تكن معروفة، أو على الأقل متاحة قبل ظهور شبكة المعلومات.. فإذا بالخصوصية الشخصية تنتفي، وإذا بالخجل يكاد يختفي، وإذا بالجرأة التي أقرب ما تكون إلى الوقاحة تنتشي، وإذا بما لا يجوز نشره ينتشر.. والمقابل المادي الذي يُدفع لقاء ما يتم تحميله على مختلف المواقع يزيد من جرعة التشجيع التي تتعاظم مع تعاظم أعداد المتابعين على اختلاف تعليقاتهم استحساناً، أو استنكاراً.
ولعل الوطن العربي الآن أصبح بحاجة إلى شبكات للتواصل تعتمد خوارزميات خاصة به لا تُغفل ضوابط الأخلاق، ولا عادات المجتمعات العربية، وتؤكد على الجوانب البراقة من التراث، فلا يعود الفرد العربي في حالة استلاب غربي تجعله حائراً في انتمائه، وفي معرفة هويته، وفي ممارسته لحريته.. أو على الأقل لأن تعمل الخوارزميات العربية على التعريف بالوجه العربي الذي يحمل إرثا عظيماً من قيم الأخلاق، والإنسانية، والثقافة، والعلم، فلا تضيع ملامحه بين ملامح باقي الوجوه، ولا يوضع فوقه قناع يطمس هويته قبل إرثه الثمين، وحتى تقول العولمة الرقمية في نهاية جولتها أنها قد فشلت في صهر العربي في بوتقتها، وأن عولمتها لن تعود تؤدي غايتها.
(إضاءات) ـ لينـــــا كيــــــــلاني ـ