يفتش المرء عن خلاصه، فيقع في مشكلة أصعب، ويبحث عن حل، فيزداد الوضع تعقيداً، وينتظم في سلسلة اجتماعية وإطار مجتمعي متكامل، فيهدأ الوضع، وتتداعى المشكلات، وتتراجع الضغوط، لكن ذلك يحتاج وقتاً وعملاً دؤوباً لا يتوقف ولا يتراجع أمام العقبات والمشكلات الطارئة، صغيرة كانت أم كبيرة.
بعد أكثر من سنوات عشر عجاف تزدحم حياة المواطن بالمشكلات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والأسرية والمعيشية، وترتفع وتيرة الضغوطات في ظل تناقص الاحتياجات الضرورية وصعوبة احتمال الحصول عليها وانتشار ظاهرة البحث عن مخرج ذاتي وخلاص فردي يفرض على المرء نوعاً منغلقاً من تفكير سوداوي يتعامى عن المحيط، ويركز الاهتمام في الدائرة الفردية، ويشخصن المشكلة في إطارها الضيق، ويعمي بصره وبصيرته عما حوله من محيط تتلاطم فيه أمواج الشقاء والخوف وضرب كل بيت دون تمييز.
سنوات الحرب الصعبة فجرت في النفس أسوأ مكنوناتها، وأظهرت في التعامل أبشع أشكال السلوك، ومنعت بوادر العطاء إلى حد كبير، وأبعدت مقدرات وقدرات فردية وجماعية ما كان لها أن تضيع وتختفي لولا وجود تيار واسع تم مسح جزء مهم من ذاكرته، فضاعت عنده الاتجاهات وما عاد يرى إلا موضع قدميه، وربما موضع قدم واحدة، أو جزءاً منها، فما الحل؟ وما مصيرنا في قادم الأيام؟ وأي الدروب نسلك؟ وهل ثمة خلاص جماعي يجعل الباحثين عن خلاصهم الفردي يمتلكون موعظة المعرفة والفضيلة؟
في البحث عن الاحتياجات الفردية واليومية له نراه يسلك أي الطرق للحصول عليها من دون وازع قيمي أو رادع أخلاقي، وما عليه إن حصل على طعامه وكسائه واحتياجاته من الوقود والمال، وهو يزاحم أخاه وأهله وجيرانه، وينازعهم تلك المغانم، فهو يركز في أسلوب الحصول على قوت يومه وحده من دون التفات للمحيط الذي يعيش به، ويبدو هذا الأمر في جميع مفاصل الحياة اليومية، يزيد من بشاعتها وجود المحتكرين والمتحكمين بتلك الاحتياجات والمتاجرين بها ممن لا يتورعون عن سلب كل ما يستطيعون دون أن يرف لهم جفن، فيتساوون مع المعتدين من الغزاة والإرهابيين، وربما يزيدونهم ظلماً وقهراً، فإن كان الغزاة والإرهابيون يقتلون الأجساد فإن أولئك يقتلون الروح المعنوية والجسد المادي في آن.
في البحث عن حل ومخرج نعترف بأن الحرب النفسية وماكينة الإعلام المعادي فعلت فعلها، ودفعت بالكثيرين للهرب خوفاً من مواجهة استحقاقات وطنية واجتماعية مطلوبة، فهاجر البعض هرباً من بطش الإرهاب، وحار في الاتجاه الذي يسلك، وأي ملجأ يختار، فكان اتجاه البعض بعيداً، بينما كان الأنقياء يممون وجههم شطر إخوانهم القابضين على محبة أرضهم، لا ينازعهم فيها منازع، فصبروا وعانوا واحتملوا انتظاراً لحل قادم محتوم، وهم ما زالوا ينتظرون.
البحث عن خلاص فردي من خلال مغادرة الجماعة والهروب منها عند تعرضها للخطر يفاقم حجم المشكلة ويزيد المخاطر، وإن كان ذلك يضعف المجموعة بشكل ما، إلا أنه يمثل الخسارة الكلية بالمطلق بالنسبة للفرد، إذ إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، وهذا الأمر ينسحب على المجموعات البشرية كلها، لتترك لأولي الحل والعقد وأصحاب الخبرة والأمر والمعرفة تجاوز الظروف التي تدفع المرء لمغادرة المجموعة والكفران بها، الأمر الذي يحتاج قياساً موضوعياً ومتجانساً وعادلاً ومقنعاً، يترفع فوق المصالح الشخصية والصغيرة، ويسوس الأفراد بمساواة واضحة، ويمنع استغلال المحتكر وتاجر الأزمة ولصها ما يزيد عرا التواصل، ويعزز الثقة بالمجموعة والتزامها في أصعب الحالات.
فكيف إن كانت المجموعة هي الوطن بمقدراته البشرية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية التي كونت الشخصية الوطنية الإيجابية القادرة على العطاء في كل الظروف والمستعدة للتضحية والفداء مهما تعاظمت الخطوب، فمهما برزت ممارسات سلبية أفرزتها سنوات الحرب القذرة، فإنه بالمقابل تتراصُّ حالة الوطنية وتزداد قوةً ومنعةً، تعلن للعالم كله أن ما عشناه من ضنك وضغط وحاجة وعوز لا يغير من موقف من اختار وطنه خلاصاً له من كل الويلات.
معاً على الطريق – مصطفى المقداد