تبدو فكرة أخلاق القرية، والمقصود بها منظومة العلاقات الاجتماعية التي يمثل رأس العائلة النووية قطبها ومحورها تبدو مترسخة في وعي العديد من أفراد المجتمعات العربية حتى لو كانوا من الذين سكنوا المدينة واستقروا فيها، فثمة نزوع متأصل في نفوس أولئك يدفع نحوها لأسباب عديدة منها منظومة القيم التي تكرسها المدن بين أبنائها أو ما يمكن تسميته المنظومة الأخلاقية والقيمية التي يتحلى بها أبناؤها وهي بلا شك مرتبطة بطبيعة العلاقات الاقتصادية والتجارية ومنظومة العمل التي تحكمها وتهيمن على السلوك العام بوصفه منظومة أخلاقية بالمعنى الدقيق للكلمة أي حملة العادات والتقاليد وثقافة العمل والروابط الاجتماعية على وجه العموم.
إن الحديث عن أخلاق القرية يرتبط أساساً بحقيقة أن القرية تجمع سكاني محدود العدد تحكمه جغرافية معينة يكون لصلة القرابة والأسرة الطبيعية الأساس فيها، وتحكم علاقات أفرادها عادات وتقاليد متوارثه تكرست عبر زمن اجتماعي أعرافاً تستوطن الضمير والخيال الجمعي لتلك الجماعة الطبيعية أيا كانت المنظومة القانونية والحقوقية التي تحكم مجمل سكان البلاد بوصفهم مواطنين في مؤسسة سياسية هي الدولة بحيث تحل تقاليد المجتمع وأعرافه إلى حد بعيد محل القواعد القانونية الناظمة للحقوق والواجبات وجزاءاتها فتصبح العقوبة المجتمعية أشد وطأة وألما من العقوبة التي تحددها القوانين الوضعية إلى درجة أن التمرد والخروج عليها يصبح عند جماعات كثيرة من مظاهر القوة والشجاعة.
إن النواة الصلبة والفكرة المركزية في منظومة أخلاق القرية تتمثل في قانون العيب والعار لأي سلوك يصيب المنظومة الأخلاقية القائمة على الشرف والشهامة والكرم وإغاثة الملهوف والعفو والعفة أي أن وهج القيم يتقدم على منظومة المصالح والمنافع والربح والخسارة الناظمة لأخلاقيات المدينة بحكم طبيعة العلاقات الاقتصادية والتجارية القائمة فيها لجهة أن المدينة تجمع واسع متعدد الأصول والمنبت والطبقات والثقافات لا تحكم ثقافة الأفراد فيه أو هويتهم الشخصية صورة واحدة ثابتة كهوية أبناء الريف التي تتسم بالثبات بحكم التماثل في سبل العيش في مجتمع صغير جغرافيا وسكانيا بل هي حالة فيها سيولة تفرضها حالة التعدد والتنوع والاتساع في المدينة لكنه مع ذلك مجتمع متكامل الأدوار والخدمات والمنافع وخليط قد لا يكون متجانساً بشكل كامل بحكم جاذبية لجهة جذب المدينة للمهاجرين من الريف بحثاً عن فرص عمل أو معيشة بخدمات أفضل.
إن حياة الريف ببساطتها وعلاقاتها الشفافة والتي لا جديد فيها سوى أنها إعادة إنتاج لما سبق وتماه للفرد مع الجماعة التي نشأ وترعرع فيها وتشرب أخلاقياتها ومنظومتها القيمية سوف تصطدم حتماً حال الانتقال للمدينة طلباً للعيش فيها مع منظومة قيم مختلفة تفرضها شروط العيش في المدينة في مساحات واسعه قد تحول دون إمكانية الاندماج مع مجتمعها بثقافته وسلم قيمه وهي بلا شك تعكس إلى حد كبير حقيقة كونها انعكاس للبنية التحتية أي علاقات الإنتاج والتبادل القائمة بين أفرادها واتساقها مع القوانين الوضعية ناهيك عن تقاليد المدينة الحضرية المترسخة في وعي أبنائها العام ما يعني بالمحصلة أن الانتقال الجغرافي لأبناء الريف إلى المدن لا يعني بالضرورة تشرب هؤلاء للمنظومة القيمية المترسخة في المدينة ما يعكس تضاداً وتنازعاً بين المنظومتين فلا المدينة تريفت ولا الريفي تمدن وفق معايير المدينة فنصبح أمام اقنومية ثنائية تشوبها حالة من التنازع تحمل قدراً من التحلل من إرث اجتماعي فيه الكثير من عناصر الخير غالباً ما يكون المجتمع- وهنا بيت القصيد في الظروف التي نعيشها راهناً بأمس الحاجة إليها خاصة في ظل الأزمات الاقتصادية والمعيشية التي ترافق الحروب والصراعات وما تخلفه من آثار كارثية على المجتمعات بحيث لا تقف مؤثراتها السلبية على العمران والبنيان بل تكاد تفتك بمنظومة الأخلاق العامة فيصبح وهج المال والأثرة والمنفعة الأكثر حضوراً من وهج الأخلاق والقيم الاجتماعية التي تشكل قاسماً مشتركاً أعظماً بين الجميع.
إضاءات – د . خلف المفتاح