الثورة – أديب مخزوم:
خسرت الأوساط الفنية والثقافية السورية النحات عيسى سلامة، الذي رحل مؤخراً، بعد رحلة طويلة مع النحت الواقعي والحديث، ولقد كان يفضل القطع الحجرية العملاقة، في خطوات تشييد نصبه، التي تعانق العيون في الحدائق والساحات العامة.
هكذا أوكلت إليه بمبادرات عامة وفردية، مهمة إقامة العديد من النصب التذكارية، في ساحات وحدائق بعض المدن السورية، ولقد شارك في العديد من الملتقيات النحتية في الهواء الطلق.
والوهج الفني تغلغل في أعماقه بسن مبكرة، حين كان يتلمس سر المادة الفراغية، ويتحسس الرغبة في التعبير من خلال إيقاعاتها، وتحركت يداه في التشكيل لتعالج الطين وتنتج أجساداً ورموزاً وأشكالاً ملأت كيانه وحياته بالبهجة والفرح والسعادة.
فحب الفن دفعه في كل الاتجاهات لمعرفة أسرار التقنيات النحتية المختلفة، مركزاً لإيجاد حالة من التوازن بين الكتلة والفراغ والوصول إلى الحلول التشكيلية التي تتوسط التعبير والتجريد في مجسماته الفراغية، التي فيها الكثير من الإيقاعات الهندسية، بحيث تنبض الكتلة بداخلها بالحيوية والحركة والحياة.
والأهمية المطلقة في أعماله الحديثة تكمن في طريقة المعالجة، لا فيما تمثله من مواضيع، وبمعنى آخر إن أعماله تبقى مفتوحة على اختبارات ورؤى جديدة تجمع ما بين إيقاعات الكتل الهندسية والفراغات وحركات الأشكال القديمة، وهي تؤكد انفعالاته بحركة تعبيرية وبجهد تقني يتفاوت ما بين النعومة والخشونة، ولقد قدم حواراً بارزاً بين حركة الفنون النحتية الحديثة عبر هذا الارتحال الداخلي العاطفي والانفعالي، ولا سيما من ناحية إبراز تجسيم الكتلة والحركة العفوية للأجساد والطيور، التي قدمها من خلال ضربة الأزميل في إيقاعاته المتحررة التي تلبي انفعالاً ذاتياً وانسياقاً نحو تشكيلات بصرية حديثة نابضة بالحركة والحيوية والخيال.
ولقد أعاد الاعتبار لهواجس الارتباط التشكيلي بالينابيع الشرقية القديمة، ووجد فيها مادة خصبة للتأمل والاستلهام وتحقيق الاندفاع والعفوية في صياغة المنحوتة الفراغية والجدارية.
وكان يلتمس حيوية الحركة النحتية المتجهة نحو التبسيط والاختزال والتحوير لاستخلاص الشكل الكتلوي المنوي إنجازه، والإحاطة ببعض العلاقات والتكاوين الحديثة التي تعتمد على المخزون الثقافي وتجليات العاطفة والتجربة المتواصلة.
وفي خطوات تنقله بين النحت الحجري والنحت الخشبي اقترب، في بعض منحوتاته، من أجواء تشكيل المنحوتات السورية القديمة، وهذا الاقتراب لا يشكل اغتراب عمله عن عصب النحت الحديث، وإنما يزيد من تجليات اختبار الإيقاع الكتلوي المنفتح على تطلعات الحداثة، لأن النحت القديم (لا سيما النحت البدائي) هو منطلق كل الفنون الحديثة.
ومن خلال معالجته للأشكال الإنسانية والوجوه والطيور والبيوت، حاول التملص من ضغط أو من ثقل نقطة الارتكاز أو الثبات، من خلال إدخال تعرجات والتواءات متموجة تبرز الحركة الانسيابية، وتنفلت من توازن الانسجام في نغم العمارة النحتية.
أما من النواحي التشكيلية (الابتكار التكويني) فقد أظهر نوعاً من التنوع الأسلوبي، بين الواقعية والصياغة التجريدية، وكان ينحت بجرأة وبحرية دون ترقب ودون حذر، وكان ينحت ليبحث عن إشارات عفوية وعن وهج داخلي يعطيه شاعرية متجددة ومنفتحة على كل الأزمنة.
ومن أجل ذلك استعان بتراث التبسيط السائد في النحت القديم السوري، وقد ترسخت هذه العودة إلى الفنون القديمة في تجربته، حين بدأ يمتلك جمالية الفراغات، فالفراغ عنده جزء من الكتلة العامة، يضفي على الشكل قوة تعبيرية وجمالية قريبة الصلة من سحر كهوف الجبال أو الفجوات التي تتخلل الصخور والجذوع اليابسة.
وفي التقنية تعامل مع ألوان الأحجار المختلفة، واسترجع بعض تأثيرات الاتجاهات الفنية الهندسية، وتلمس التداخل الحاصل بين الإيقاع الكتلوي الهندسي والإيقاع العفوي
والمزاوجة بين الإشارات العمودية والأفقية في إيقاعاتها الساكنة والمتحركة المتتابعة في جسد الكتلة الحجرية، تمنح العين المزيد من التداخل بين الإشارات العقلانية وبين الاندفاعات العاطفية، كما أن بروز التضاد الإيقاعي بين المسلكين الناعم والخشن، يضفي حركة مزجية بين
المعمارية يقع ما بين التجريد الهندسي المنتظم (خطوط شاقولية شبه متوازية، زوايا حادة ومنفرجة، سطوح مربعة منقوشة تفصلها أربعة مجسمات مخروطية أفقية. وبين التجريد الغنائي الانفعالي (النقش في إيقاعاته العفوية والتلقائية).
هكذا ركز لاستلهام التشكيل الحديث، ولا سيما من ناحية إبراز الكتل الفراغية التجريدية، وإيقاعات الحركة الحية المجسدة في النقش، فالنحت هنا هو مدخل لالتقاط إيقاع سحر نبض التكوين الحديث في إشاراته الهندسية واللاهندسية، القادمة عبر إيقاعات الخطوط الشاقولية والأفقية، التي تحدد التكوينات الفراغية وتختصر مفردات الماضي والأحاسيس بآن واحد.
عيسى سلامة من موليد بانياس – الدريكية.