استشراف أم استعداد للاستقبال؟.. هذا ما سنبحث عنه في (اليوم العالمي للمستقبل) الذي أطلقته مؤخراً منظمة اليونسكو العالمية بعد أن خصصت له موعداً من كل عام سيكون كما يُقال نقلاً عنها: “لتعزيز الوعي العام، والارتقاء به لاستشراف المستقبل، ووضع السياسات الاستباقية له بهدف تنمية مستدامة للأجيال القادمة”.. هذا هو البرنامج الذي ستشغل فعالياته عاماً كاملاً قبل أن يحين الموعد السنوي للاحتفاء به فتقام من أجله ورش العمل، والندوات، والمؤتمرات، وستكون التوصيات في موضع التنفيذ لا للاحتفاء فقط بالمسميات.. والعين في هذا اليوم تُفتح واسعاً على إنجازات تتحقق، وأخرى ستليها في سبيل بلوغ الهدف منها إذا ما أصبح المستقبل صناعةً مرهونة بأيدي المجتمعات، والعلمية منها على وجه الخصوص.. يوم يستقطب إليه أكثر الحلول ابتكاراً، وأكثر المبدعين تطوراً، وتفاعلاً مع متطلبات عصرهم.
مستقبل ينبع من الحاضر، ولم تعد توقعاته من الخيال، ولا من الخيال العلمي، وبوادره أصبحت مطروحة أمامنا بجوانبها المشرقة، والقاتمة على حد سواء.. ولكلمة (المستقبل) وقع خاص في النفوس، فهذا الذي لم يأتِ بعد هو مصنع الأحلام، وفضاء التوقعات السعيدة، ومنبع الآمال العريضة، ومصدر الإيجابية في الحياة.. وهو يقع دوماً في دائرة الاستقراء، كما الدرس، والتحليل، والبحث في نتائج متوقعة، ومؤشرات تنبئ بما تخبئه الأيام.. ومستقبل الأفراد، ومصائرهم، لا ينفصلان عما يصيب الأمم، والشعوب، بل العالم بأسره.
الحاضر دوماً ينبئ بما سيليه، وبما سيأتي من بعده.. ولو سألت الناس لوجدت منهم المتفائل، ولوجدت منهم مَنْ هو على النقيض منه وقد بات يخاف من هذا المستقبل في ظل تدهور بيئي، وتقدم تقني فائق بلغ حد الإبهار ونحن نلهث وراء خطواته قبل أن نستوعب غاياته في طريق اللاعودة.. إذاً فما هو مستقبل الأجيال التي ستلي؟ ربما هذه الأجيال ستفكر جدياً بالانتقال إلى كواكب أخرى تنشئ عليها مدناً، ونمطاً جديداً من الحياة لاسيما وأن هناك من يطلق الآن هذه الدعوات للسفر الفضائي.
كوارث بيئية، وشح في المياه، وطفرة تكنولوجية ربما ستدفعنا لزرع الشرائح الإلكترونية في أجسادنا حتى نتمكن من العيش في عالم تغزوه الآلة في كل أجزائه وقد لا تترك لنا مجالاً لنعلن تمردنا عليها، أو لممارسة إنسانيتنا الحقيقية إذ تغيبها فواصل أزرارها المعدنية التي لا حصر لها.. وها نحن قد تخطينا عتبة الأمان في بيئة الأرض التي اهترأت، وبدأت تعلن عن غضبها في أحوال مناخية ستزداد قتامة سنة بعد أخرى ما لم تُجد لها الحلول المجدية، والفعالة، والسريعة أيضاً، والتي من شأنها أن تكبح الاستغلال الجائر للأرض، وتعمل على شفائها.
لكن.. هل أخطاء البشر ستنفي فكرة الطموح نحو التطور، والتقدم بعيداً عن إصابات التدهور البيئي التي نالت من كوكبنا.. أم أن التقنية التي ازدهرت، كما العلم الذي تطور، قد يأتيان بالحلول المخلِّصة؟.
أما أزمة الجائحة فقد مكّنت الأفراد من التعرف على أنفسهم، واكتشاف قدراتهم، ومهاراتهم الخفية عندما غيبتهم جدران بيوتهم لفترة من الزمن ليست بقصيرة، وهم يعملون عن بعد، كما جعلتهم يستعدون للمفاجآت والمتغيرات التي تباغت دون سابق إنذار.. وهذا ما يدفعنا بدوره إلى مواجهة التحديات المتنامية معاً وبثبات من خلال برامج الحكومات، والتعاون الدولي بالتالي. أما الإيقاع السريع الذي باتت عليه الحياة فهو يستدعي مزيداً من الوعي، والانتباه، وتغيير السلوك حتى لا يقع الاشتباه، ومن ثم الكارثة السريعة، و(اليوم العالمي للمستقبل) يهدف أيضاً إلى بناء تفكير يتبنى مشاريع المستقبل بشكل مجتمعي.
إن مثل هذا اليوم العالمي يستدعي معه أيضاً أن نعيش اللحظة دون هواجس القادم، وتوقعاتٍ قد تخذلنا، أو ربما تنجينا، وتتقدم بنا نحو الأفضل.. وأن ندع الخطوط العريضة لاستشراف المستقبل، والأهداف البعيدة له، والتي نضعها في الحسبان، ونخطط لها لتحقيق المطلوب منها، لنهتم بالحاضر ولكن بإرادة واضحة، ودراية كافية تجعل من تصحيح الخطى نافذة إنقاذ، وحتى لا نفقد مرونة العيش ضمن الظروف الراهنة، والواقع الحالي.. فالحاضر هو أساس البناء لمستقبل لا يجوز رفضه مسبقاً لأنه القادم من الغيب، ولو هو جزء من لوحة غير مكتملة الخطوط.. إلا أن اللوحة الناقصة لابد أن تقع ضمن إطارها.
وإذا ما سمحنا للإيجابية أن تنمو في دواخلنا فلن تنهزم أيامنا أمام القادم المجهول وسط تنوعنا الثقافي، والفكري الذي يخدم بدوره التعاون العالمي في مجال الإبداع، والابتكار، وحلول المستقبل العلمية طويلة المدى التي توصل إلى تنمية مستدامة تأتي لنا بحلول شاملة تتحدى مشكلاتنا.
فهل سنكتب (سيناريو) جديداً للحياة على الأرض؟ ربما.. لكن المستقبل ليس مخيفاً بالقدر الذي نتوقعه الآن، بل لعله سيكون ذكياً بل الأكثر ذكاءً.
إضاءات ـ لينــــا كيـــــــلاني