الثورة – فؤاد مسعد:
أربعون يوماً مرت وروحه بيننا، صوته يعشعش داخل كل منا معشّقاً بالأصالة، إنه الفنان الكبير صباح فخري الذي رحل تاركاً المفاتيح بيده، هي مفاتيح لا يمكن محاولة تقليدها لأنها ممهورة باسم (صناجة العرب) اللقب الأحب إلى قلبه، هو أحد أعمدة الغناء والموسيقا ومن أهم أساطين الفن، كان شغوفاً بالبحث والدراسة والمعرفة نهماً للتعلّم وهو المُعلّم الذي شكّل مدرسة لها مريدوها وطلابها، فكان الاستثناء حتى في تواضعه، مشكلاً علامة فارقة في تاريخ الموسيقا الشرقية، فمنذ عام (1947) أخذ على عاتقه مهمة إحياء وتجديد التراث خشية من اندثاره فلحنه وسجله ودوّنه بصوته، فأخذ الإيقاعات القديمة وعمل على إعادة صياغتها وإخراجها وتقديمها بإحساسه الخاص وبطريقة تتناسب وروح العصر فنبّش عن التراث القديم وعمد إلى تطويره وإعادة صياغته محافظاً على هيكله اللحني، وقد فعل ذلك دون التخلي عن أغانيه الخاصة، تاركاً إرثاً فنياً غنياً تميّز بلونه الخاص المطبوع باسمه، مكرساً مكانته المتقدمة بين عمالقة الفنانين العرب.
امتلك حنجرة قوية صافية وصوتاً محترفاً يؤدي كل القوالب الطربية متمتعاً بمقومات فريدة مشكّلاً من خلاله حالة صوفية تتسم بالصفاء والنقاء والقوة، كانت لديه القدرة في الغناء على الانتقال بين المقامات، أتقن القدود الحلبية والقصائد الصعبة والغناء الموزون والبسيط، استطاع تحقيق التمازج بين الأصالة والتراث والمعاصرة، متميزاً بقدرة عالية على أداء جميع ألوان التراث من موشحات وقدود ومواويل إضافة إلى القصائد والأدوار والطقاطيق والأغاني المعاصرة، غنّى الوطني والديني والشاعري وعيون قصائد الشعر العربي القديم والجاهلي والمعاصر وما بينهما، ولاقت أغانيه شعبية واسعة في مختلف أرجاء الوطن العربي وفي المهجر، تفرّد بآلية العلاقة التي تربط بينه وبين الجمهور والتي كان عمادها التفاعل الكبير بينهما، فكان يستطيع من خلال فراسته معرفة كيف يمكن جذب انتباه الناس والغوص في دواخلهم فحين يغني يقوم بدراسة حالات الجمهور ليستشف المعاني والألحان الأقرب إليه، وكثيراً ما كان يصل إلى مرحلة السلطنة تبعاً لتفاعل الحضور فيستمر في الغناء لساعات طويلة، ومن سبق له أن حضر حفلاته في حلب يعرف تماماً أنه كان يقف على المسرح في العاشرة مساء ولا ينتهي من الغناء حتى الثانية عشرة ظهراً، حتى أنه يعتبر المطرب العربي الوحيد الذي دخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية بسبب استمراره في الغناء المتواصل دون توقف لأكثر من عشر ساعات في حفل أقيم بالعاصمة الفنزويلية كاراكاس عام 1968.
على الرغم من أنه غنى في أغلب دول العالم إلا أن مدينته حلب يبقى لها سحرها الخاص لديه حيث الرهبة والألق والثقل الفني، فهو يرى أن الحفلات التي كانت تُقام في قلعتها يجتمع فيها ثلاثي الطرب والتاريخ والجمهور المتذوق للأصالة.
تولّى خلال مسيرة حياته العديد من المناصب الهامة وكُرّم في العديد من المحافل العربية والعالمية وتم تقليّده العديد من الأوسمة، واليوم يبقى ما تركه من عطاء إبداعي وإرث فني وفكري وجمالي وحضاري ضمن الذاكرة الجمعية للناس لا يمحوه الزمن لأنه راسخ لا يموت.