ندعوها بلغتنا الأم لأنها كصوت الأم عندما تنادي أبناءها.. فيها العذوبة، ورِقة المعنى، وجمال الكلمة.. معها نتوحد كأمة، ومن دونها نتفرق.. تتنوع لهجاتنا ونحن ننطق بها في بلداننا، إلا أنها جميعاً تتدفق من نبع واحد هو لغتنا العربية هذه التي تحفظ لنا هويتنا، وإرثنا الحضاري من الزوال.
ونظراً لأهميتها على مستوى العالم كلغة بين المنطوقة، والمكتوبة، لمئات ملايين البشر، أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة كلغة رسمية عالمية تدخل إلى أروقتها، وكواحدة من اللغات الست الرسمية في المنظومة الأممية، وليُحتفل بها في ترويج لها في يوم عالمي يقع في الثامن عشر من شهر كانون الأول/ ديسمبر من كل عام.
وتشير الدراسات إلى أن اللغة العربية، والتي يشار إليها بلغة (الضاد)، لأنها تنفرد وحدها من بين اللغات بحرف (الضاد)، والذي اعتُمد شعاراً لها في يوم الاحتفال بها، هي واحدة من بين اللغات الأربع الأكثر استخداماً على شبكة المعلومات.. وهذا المؤشر يدفعنا لا فقط للاحتفاء بها في يومها في تسليط للضوء على أهميتها بل للنهوض بها وهي تتهاوى بين العامية والفصحى، وما تحدثه قضية الإزدواج اللغوي فيها، وما ساهمت به بشكل كبير لغة الرقمية عبر وسائل التواصل الحديثة بين الناس الذين استسهلوا خطاب العامية حتى كادت الفصحى أن تختفي من بين سطورهم المكتوبة.. لا بل إن موجة من التجاوز على اللغة باتت تكتسح هذه الصفحات الإلكترونية وكادت أن تشوهها، فإذا بنا نجدها تزخر بالأخطاء اللغوية، والإملائية، كوضع (ياء) التأنيث مثلاً في غير موضعها نظراً لعدم التفريق بين (ياء) المخاطبة للمؤنث، و(الكسرة)، حتى أصبح من الناس مَنْ يألفها، ويستخدمها في إشارة إلى المخاطب المؤنث بحيث أصبحت الأكثر شيوعاً، كذلك هو الحال مع (واو) الجماعة و(واو) الفعل الاصلية، و(التاء) المربوطة و(الهاء) في آخر الجملة، و(الألف المقصورة) والأخرى (الممدودة)، وغيرها من أخطاء الصرف، والتنوين، والتعريف، الخ… وكأننا لم ندخل إلى المدارس يوماً.
أما وقد تجرأنا على هيبة لغتنا فلم نعد نهاب الخطأ حتى تكاثرت أخطاؤنا، وتناثرت كما الطحالب وهي تغزو المواقع لتصبح شائعة.. بينما توجد الحلول للوصول إلى لغة دون أخطاء على مواقع شبكة المعلومات ذاتها لمن لا يريد أن يستسهل أمرها.
وإذا كان موضوع الاحتفال لهذا العام هو (اللغة العربية والتواصل الحضاري) مادامت القنوات في الوصول إلى الآخر لا تعيقها المسافات، ولا اختلاف اللغات، واللغة بالأساس هي لتناقل المعارف بين الشعوب فكيف إذاً ستصل المعرفة الكاملة، ويرتقي الحوار بلغة منقوصة غير سليمة في بنيتها؟.. كيف لمحرك البحث، أو لقاموس إلكتروني أن يقوم بترجمة صحيحة لكلمة، أو لعبارة لا يعرف صاحبها كتابتها بشكل سليم لغوياً، ومن دون أخطاء إملائية بينما هو يتلهف لأن يترجم حواره لمن يتواصل معه على الطرف الآخر بلغته؟.. فكيف إذاً سنتناقل المعارف في سياق التواصل الحضاري إذا كنا لا نتقن لغتنا؟.. بل ما ذنب الأجنبي الذي ينفق سنوات في الجامعات ليتعلم اللغة العربية السليمة إذا ما تواصل مع مَنْ ينطق بها أن يجدها غير سليمة لدى أهلها، بل كيف له يتعامل بها حسب أصولها وقواعدها؟.. وهل نستطيع إذا ما أفسدنا لغتنا باستهتارنا بأخطاء هي ليست بحال من الأحوال منها أن نتذوق جمالية النثر، والشعر، وما جاء به التراث المخبوء في طيات الكتب، إلى جانب الخط العربي وهو آيات من الفن الذي ارتبط بالدور التاريخي لهذه اللغة الثرية؟ في حين أن مجامع اللغة العربية تجهد في مساعيها لحفظ مكانة لغتنا، وصونها، وتعزيز مرونتها بما يضيف إليها، ولا ينتقص من مهابتها.
إن مهمة تثبيت الهوية على خارطة العالم لا تقتصر على الكتّاب، والأدباء لأن منهم من بات يستعيض عن الفصحى بالعامية في كتبهم المطبوعة.. ولا على الإعلام المرئي، والمسموع، وقد بات يعتمد العامية أكثر من الفصحى في بث برامجه، ولا على المشاريع القومية، والقرارات السيادية فقط بل إن المهمة تقع على عاتق كل مَنْ ينطق بلغة (الضاد) على تعدد اللجهات، وهي بالتالي لم تنل من اللغة الفصحى بل ظلت متينة، وظل تأثيرها ممتداً في لغات أخرى حتى يومنا هذا كاللغة الإسبانية مثلاً.
وإذا كانت منظمة (اليونسكو) تدعو لاجتماع افتراضي مع مختصين باللغة العربية لبحث ضرورة وجود مجامع اللغة العربية ودورها في صون اللغة، وحمايتها.. وإذا كانت أيضاً أكثر الوسوم انتشاراً على مواقع التواصل الاجتماعي في اليوم العالمي للغة العربية هي التي تدعو للحفاظ على الفصحى فالأجدر بنا أن نصونها حتى يكون الاحتفاء بها حقيقياً لا زائفاً.
* * *
(إضاءات)- لينـــــا كيــــــــلاني ـ