الملحق الثقافي:حامد العبد:
لطالما شكل مفهوم الزمن سراً غامضاً وعصياً على فهم الإنسان الذي لا يملك أي شيء حقيقي بشأنه.
هل للزمن وجود؟. وإذا كان كذلك فما هي مادته؟. وهل له من واقعٍ خارجَ إدراك الإنسان؟. وهل الزمان والمكان مستقلان عن بعضهما أم أنه لا وجود لأحدهما دون الآخر؟.
كلها أسئلة شغلت فكر البشرية منذ فجر التاريخ، ولعل من أوائل من تفكَّر في الزمن وحاول تحديده كان أرسطو الذي عرفه ببساطة في طبيعياته: «الزمن هو عدد الحركة»، ليضيف بعد ذلك: «أن يكون الشيء في الزمان يعني أن يكون مقيداً، ذلك لأن الأشياء توجد مطوقة بالعدد كما هي مطوقة بمكانها».. أما الفيلسوف الألماني ليبتز فقد عرَّفه بأنه: « مجرد نظام للتعاقب». أما قاموس ليلاند العلمي فقد قدم تعريفاً لا يخلو من الطرافة عن الزمن حيث أورد « الزمن هو حركة مستمرة يصبح من خلالها الحاضر ماضياً»، هكذا بكل بساطة.
كما نلاحظ أن جميع هذه التعريفات تدور حول المفهوم، دون أن تحدد ماهيته على الإطلاق، وتتحدث عن آثاره أكثر من حديثها عن كينونته.. وهذا ما حدا بالعالم باسكال أن يعتبر بأنه لا فائدة من البحث عن تعريف للزمن طالما أن الجميع يعرفون ما نتحدث عنه ويفهمونه.. ويمكننا القول أن القديس أوغسطين قد سبق باسكال في الحديث عن هذه الفكرة حين قال:»أنا أعرف ما هو الزمن ما لم يسألني أحد عنه، ولكني أجهله حين أُسأل عنه»، إذن فالزمن معروف عبر خبرة الإنسان ولكن لا وجود مادي له.
بيد أن من المؤكد أن الإنسان شعر طوال العصور بالرهبة من الزمن، وخصوصاً أن له طبيعة متغيرة ومتحركة لا تعرف السكون على الإطلاق، وهذه الطبيعة العصية عن أن تُلجم، هي التي توحي للإنسان بفنائه وزواله، وبأن وجوده عديم الجدوى أو ضرب من العبث، الأمر الذي جعل معظم الحضارات القديمة إن لم نقل كلها، تلجأ إلى الأساطير لتبعد عن إنسانها شبح هذا الفناء، فكانت فكرة تحنيط الموتى عند قدماء المصريين ودفن مقتنياتهم الثمينة معهم، وتأليفهم لما يسمى بكتاب الموتى أملاً بالخلود.. وكان عند الإغريق إله خاص بالزمن يدعى كرونوسيس Chronos والذي من اسمه تم اشتقاق الكلمة الإنكليزية Chronological أي الزمني أو المرتب زمنياً، وهو حسب الأساطير إله مرعب يلتهم أولاده الذي أنجبهم الواحد تلو الآخر خشية منهم على ملكه، مثلما يفعل الزمن على أرض الواقع حيث لا يتوانى عن إفناء الكائنات الحية التي ينجبها بشكل دائم.. كما أن الثقافة العربية تقف موقف عداء من الزمن، لأنها ترى فيه مصدر كل شر كالفراق بين الأحبة والأمراض والشيخوخة والمصائب، وهي بذلك لا تشذ كثيراً عن سابقاتها في هذا الموقف، على الرغم من أن هذه الثقافة التي توصف بأنها ثقافة «نص» بامتياز، جعلت هناك تماهياً بين الإله وبين الزمن أو الدهر، وذلك من خلال الحديث النبوي الشهير: «لا تسبّوا الدهر، فإن الله هو الدهر». وكان على البشرية أن تنتظر طويلاً حتى قدوم القرن العشرين كي تخف حدّة هذا التصور الموحش عن الزمن بفضل العلم الذي بحث فيه بموضوعية أكثر، وجعله أكثر قرباً من وعي الإنسان.
إذن فحياة الإنسان مهددة باستمرار من قبل الزمن الذي يمضي به إلى زوال، والإنسان كما هو معروف هو الكائن الحي الوحيد الذي يعلم بأنه سيفنى، ويشعر بحركة الزمن ويتأثر بها، وهنا لا بد لنا أن نفرق بين الزمن الموضوعي (زمن ساعة اليد على سبيل المثال) الخارج عن مجال الإنسان، وبين الزمن النفسي أو الوجودي الخاص بالإنسان والذي يختلف عن الزمن الأول طولاً وقصراً بحسب مقتضيات كثيرة تخص الإنسان وحده، وهذا الزمن (النفسي) أصبح أحد أهم الموضوعات التي يتناولها الفن بشكل عام والأدب بشكل خاص، ولعلنا نستطيع أن نحدد الرواية أكثر من غيرها من الأجناس الأدبية على اعتبارها الأكثر التصاقاً بالواقع، ومنذ نشأتها وُصفت بأنها فن قائم على الزمن مَثلها مثل الموسيقا، في مقابل فنون أخرى تقوم على المكان كالرسم والنحت.. و كلما تأمل الأديب في الحياة أكثر وتعمق تفكيره فيها، كلما ازداد إحساسه ووعيه بالزمن الذي سيقوى تأثيره في أعماله الأدبية والإبداعية.. ففي وجدان الأديب وعقله يتجذّر الزمن شأنه في ذلك شأن أي إنسان آخر، ولكن الأديب يختلف عن سواه بأنه صاحب حس مرهف أكثر، وبالتالي فإن هذا التجذّر أقوى تأثيراً لديه وربما إيلاماً عن غيره، وهذا ما جعل الزمن يشكل علامة فارقة في الأعمال الأدبية عموماً والسردية منها بشكل خاص، ذلك لأن تلك النصوص تقوم بمجملها على أساس سرد أحداث أخذت حيزاً لها في الزمن، الأمر الذي حدا به أن يكون أحد أهم العناصر الحكائية المميزة لتلك النصوص، وربما يكون الزمن هو الشخصية الرئيسة في هذه النصوص بسبب سهولة استخدام الكاتب للمستويات الزمنية وتلاعبه فيها من عودة إلى الماضي وقفز إلى المستقبل، وقطع التسلسل الزمني الصارم، وليس من قبيل الصدفة أن أول من كتب عن آلة تكسر هذا التسلسل المقيت، كان أديباً وليس عالماً فيزيائياً، وهو الكاتب الإنكليزي هربرت جورج ويلز في روايته الشهيرة (آلة الزمن) عام 1985م.
وهنا يتوجب على قارئ هذه النصوص بدوره أن ينتزع نفسه من زمانه الخاص، ويتماهى مع زمن شخصيات الرواية ومؤلفها في نفس الوقت، الأمر الذي يحقق له حالة من المتعة الفكرية، وأن يشارك الشخصيات مغامراتهم وينتحل ماضيهم ويشاركهم ذاكرتهم، لدرجة أن الزمن الحقيقي للقارئ يتم إلغاؤه بمحض إرادته ويصبح هذا القارئ يعيش تجربة زمن مغاير لزمنه.
ومن المعروف أن الزمن كثيراً ما يستعين بذاكرة الإنسان الذي غالباً ما تخونه ليس عن طريق النسيان فقط كما هو شائع، ولكن عن طريق العودة به إلى ماض يتحسّر على فراقه ويحن إليه، أو يحاول الفرار منه وكأنها تجر هذا الماضي جراً وبقوة لتمزجه بحاضر على شكل امتداد لا انقطاع فيه.. ولعل هذا ما جعل موضوع الوقوف على الأطلال هو الموضوع الأكثر تكراراً وإلحاحاً في الشعر الجاهلي، هذا الشعر الذي قام بنيانه على أساس الفطرة البسيطة بالدرجة الأولى.. و هنا يمكننا القول أن الشاعر العربي (الجاهلي بالدرجة الأولى) تأثر حينها بالعملية الزمنية لأقصى حد وانشغل بها تفكيراً وإبداعاً.
بيد أن الأدب والأدباء لم يقفوا من الزمن موقف المتأثر السلبي به، بل حاولوا التغلب عليه أو بالأصح التحايل عليه، وذلك بأن يقتطع الأديب من الزمن نفسه فترة تطول أو تقصر ليبدع من خلالها قطعة أدبية أو نصاً ثابتاً لا يتأثر بمرور الزمن، الأمر الذي يحقق الخلود للنص ولكاتبه في نفس الوقت، ويؤمن استمراريته في عقول الأجيال المتلاحقة، وتاريخ البشرية يزخر بالكثير من هذه الأعمال التي كانت عصية على الزمن منذ كتابتها.. وهنا لا بد لنا أن نذكر أنه بوسع الناس الأثرياء أن يشيدوا أو أن يمتلكوا قصوراً لهم في المكان فقط، ولكن المبدعين وحدهم فقط هم القادرون على تشييد قصور لهم في الزمن، قصوراً ستبقى شامخة مادامت البشرية باقية، رغم أنف إله الزمن المتوحش كورونسيس الذي التهم كل أبناءه الذين أنجبهم ولكنه عجز عن التهام المبدعين منهم.
التاريخ: الثلاثاء11-1-2022
رقم العدد :1078