الملحق الثقافي:فاتن دعبول:
يجمع الباحثون المتخصصون في حقل الترجمة على أنها واحدة من صيغ التواصل بين البشر على وجه الأرض، وأن ما من حضارة قامت وتطورت وأثرت في غيرها إلا من خلال الترجمة، لأنها خير ناقل للثقافة والحضارة، وهي تسهم في تكوين وخلق أفق جديد وتشكل في الآن نفسه ضرورة معرفية في اللغات جميعها.
وللوقوف عند أهمية الترجمة ودورها في تشكيل جسر للتثاقف والتواصل الحضاري، كان لنا هذه الوقفة مع عدد من المترجمين الذين خبروا في تجربتهم الغنية أهمية هذا النوع من الفنون الأدبية:
د. ممدوح أبو الوي: تفوق العرب وأبدعوا
لم تكن الترجمة وليدة العصر كما يبين د. ممدوح أبو الوي، بل بدأت في العصر الأموي، ولاسيما في عهد عمر بن عبد العزيز الذي استمرت خلافته سنتين فقط 717_ 719 حيث عملت الدولة الأموية على تعريب الدواوين، واهتم في العصر الأموي الأمير خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بالترجمة، وتطورت الترجمة في بداية العصر العباسي في زمن الخليفة العباسي، في زمن الخليفة أبي جعفر المنصور، الذي استمرت خلافته 21 عاماً، وفي زمن الخليفة العباسي هارون الرشيد الذي استمرت خلافته 22 عاماً، وقام عبد الله بن المقفع وهو فارسي الأصل في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور بترجمة كتاب» كليلة ودمنة» عن الفارسية، وأراد من كتابه الإصلاح الاجتماعي والتوجيه السياسي والنصح الأخلاقي، ولكنه لم ينج نفسه من الظلم، فقتله الخليفة.
ويتوقف د. أبو الوي عند أهم المترجمين في العصر العباسي ومنهم حنين بن اسحق العبادي الذي أتقن أربع لغات» العربية، السريانية، اليونانية والفارسية» عمل في بيت الحكمة بمثابة المشرف العام على جميع الترجمات التي كانت تتم داخل هذا البيت، وكان يتولى بنفسه إصلاح الترجمات.
ومن المترجمين يعقوب بن اسحق الكندي وثابت بن قرة، وكان لهم دور كبير في نقل العلوم وخصوصاً أنهم متعددوا الاختصاصات، ومما ساعدهم على التفوق وجود رعاة للترجمة من مثل» الخليفة المأمون» الذي اهتم بالترجمة والفلسفة والطب والجغرافية، حتى أنه لقب بفيلسوف الخلفاء وحكيم بني عباس.
كما اهتم الخلفاء» المعتصم، الواثق والخليفة المتوكل الذي كان أكثرهم اهتماماً بالترجمة، ويدل على ذلك تلك العلاقة التي ربطت بينه وبين أمهر مترجمي عصره» حنين بن اسحق» والذي أصبح من أبرز مترجمي بيت الحكمة في زمن هذا الخليفة.
ويبين بدوره أن من أهم الشروط التي يجب أن تتوفر في المترجم، معرفة اللغة المترجم عنها» لغة المصدر» ومعرفة العلم الذي تتناوله المادة المترجمة.
ويدلل بدوره على أهمية الترجمة بقول للدكتور حسام الخطيب» وبين ما ترجم إلى العربية عدد لا يستهان به من النصوص التي ضاعت أصولها اليونانية، ولم تصلنا إلا من خلال ترجماتها العربية» وهذا يؤكد أنها لو لم تترجم إلى اللغة العربية لضاعت نهائياً.
وعن تجربته الشخصية يبين د. ممدوح أبو الوي أنه تخرج من جامعة لينينغراد الحكومية في العام 1983 في روسيا، وكان حصل على الماجستير بتقدير شرف من الجامعة ذاتها، وعضو اتحاد الكتاب العرب، وعضو جمعية الترجمة، والمرتبة العلمية أستاذ منذ عام 2007 في قسم اللغة العربية، جامعة البعث، وفي قسم اللغة الروسية في جامعة دمشق منذ العام 2014.
ومن مؤلفاته» الفن السينمائي وصراع الأفكار، حدود العصور، حدود الثقافات، أعلام الأدب الروسي، نظرية الأدب ومبادئ النقد، أصول البحث، الإيديولوجيا البرجوازية ..»
ومن البحوث المحكمة» كتابات عربية عن تولستوي، ميخائيل نعيمة وتولستوي، المدرسة الواقعية الاشتراكية في عصر المتغيرات الدولية، خصوصية ترجمة الأجناس الأدبية، وشارك بالعديد من المؤتمرات العلمية ومنها» مؤتمر اللغة الروسية وآدابها بجامعة موسكو، مؤتمر الترجمة في الجامعة الأردنية، مؤتمر الترجمة في الدول العربية ..»
زياد العودة: إغناء اللغة الهدف
ويعرف د. زياد العودة المثاقفة بأنها مصطلح عام وواسع، ولم يكتسب صياغته إلا في العصر الحديث، فقد كان موجوداً منذ تشكل الأمم المختلفة بكل ما لديها من نتاجات حضارية لا تقتصر على اللغة، بل تشمل معظم جوانب الحياة، وقد أصبح اليوم دالاً بصورة أساسية على تمازج الثقافات، وهو نقيض الانغلاق غير الممكن في الوقت الحاضر، بعد الانتشار الواسع لوسائل الاتصال الاجتماعي المتطورة التي لم يعد يقف أمامها أي حائل.
ويضيف: غير أن المثاقفة ليست معصومة من المساوىء والأضرار، لاسيما إذا احتوت عناصر مصطنعة ومضللة أو عديمة الفائدة، فليس كل أدب أو فن يصل مشفوعاً بالإيجاب ومطوراً للهدف الذي يصل إليه.
أما وصول جزء أو أكثر من ثقافة الآخر إلى ثقافة الذات، فهو عموماً عملية لابد منها ولا غنى عن فوائدها، والترجمة هي إحدى الوسائل الفعالة في هذه المثاقفة، فهي على الأقل تقابل بين لغتين مختلفتين ووراءهما ثقافتان مختلفتان في قطاعات هامة، فما يخلق اللغات أصلاً هو اختلافها، وليس تطابقها الذي هو وهم لا وجود له.
إن الاطلاع على قطبي الترجمة» الأصل والهدف» ضروري للغاية، فالنقل من لغة إلى أخرى ليس نقل مفردات معزولة عن سياقها بل له دلالات تتصل بمعطيات حضارية ووقائع، والنتيجة هي الإفادة المتبادلة بين ثقافتين يجري السير بينهما ذهاباً وإياباً، إنما هي في ذلك الفهم لخلفيتي الثقافتين اللتين تشكلان النقل الترجمي الواضح والصريح، إن الناتج المرجو من الترجمة بين كلمة وأخرى هو إسهام في إغناء اللغة الهدف، وهكذا الأمر بالنسبة للنقل العكسي.
وعن تجربته في الترجمة يقول: هو موضوع واسع ولا أظن أني قادر على الخوض فيه بشكل واف وكاف بهذه العجالة وضمن الحيز المخصص للحديث عنه .. ولكنه يورد بعض المحطات التي تنير الموضوع بعض الشيء.
يقول: كانت بداياتي بثلاث كتب هي» لورا والفتيان، وبيل وسيباستيان، وحكايات غجرية» وذلك منذ أكثر من أربعين عاماً وفي تنوع الثقافات التي تصدر عنها هذه الكتب» ألمانية، الفرنسية والفلكلورية الغجرية» حرصت في عملي على الوضوح والدقة وعكس الأجواء التي تندرج فيها أحداث هذه الكتب.
أما القفزة الثانية من حيث المستوى الفكري، كانت دراستان تنتميان إلى أدب الموضوعات وهما أسطورة دون جوان وأسطورة أوديب، هنا تستعمل اللغة الحديثة والمعاصرة في النقد الأدبي الذي يتناول تجليات موضوع معين في عدد من الأنواع الأدبية والفنية أو حتى الفلسفية، وهذه لغة قد تصدم المترجم المعتاد على لغة التعبير التقليدية، وربما تجعله يتخلى عن التصدي لمثل هذه النصوص.
وكتابا مالرو ومورياك ينتميان إلى أدب السيرة والمؤلفات.. وكان لابد من اطلاع واسع على أعمال هذين الأديبين الكبيرين وعلى النقد الأدبي الذي يتناولهما وإلا كانت الترجمة تعتمد على السياق اللغوي للمؤلفات وحده، ثم هناك مؤلفات هامة من مثل أزمة مفهوم الأدب في فرنسا في القرن العشرين والمؤلفات الروائية الكاملة لميريميه» كارمن، كولومبا» وهذه المؤلفات تحتاج لمساحة أخرى للحديث عنها دون الانتقاص من شأنها والمشروع الكبير الذي أنجزته هو مؤلفات فيكتور هيغو الروائية الستة الكبرى، وقد اقتضى إنجازها ثمانية عشر عاماً، ومن الطبيعي أن يجاور هذا الإنجاز الهام دراسات نقدية وإسهامات في الدوريات الأدبية السورية.
إن كلا من الروايات الست تتطلب سرداً وتحليلاً للصعوبات التي اعترضت المترجم في أثناء عمله.
أما فيما يخص إعادة ترجمة رواية البؤساء فيقول: إن الرواية لم تترجم بنصها الكامل إلا هذه المرة في سورية، أما عن النصوص المتوفرة ربما في المكتبات أو غيرها فلا تتعدى كونها تلخيصاً للرواية بين 500_ 600 صفحة، أما هذه الرواية التي صدرت عن الهيئة العامة للكتاب في 2300 صفحة وأربعة أجزاء تتضمن أفكاراً وتدافع عن قيم جديدة تصلح لسنوات عديدة قادمة، كما تعد تعبيراً عن امتلاك الفن الروائي إلى حدود قصوى، وأظن أن قارئها سيجد متعة وفائدة كبيرتين أثناء القراءة، وسيعيد النظر بقناعات وآراء وأحكام كان يعتقد بصوابيتها المطلقة.
ويضيف العودة: إن هذه الرواية في نظري هي من أهم روايات الكاتب فيكتور هيجو وهي إسهام في التنوير الفكري والتربية الوجدانية لأجيال كاملة من القراء.. وعلى أي حال فالرواية تدافع عن نفسها دون الحاجة إلى من يمتدحها، وأظن أن ترجمتي لها ليست بلا فائدة، وأنا مسرور لصدورها وتوفرها أمام جمهور القراء.
حامد فرزت: جسر للحضارات
د. حامد فرزت يتوقف عند أهمية الترجمة ودورها ويبين أنه مع نشأة علم اللسانيات الذي اهتم بالدراسة العلمية للغة كنظام إشارات يرتكز على مبادئ وقواعد برزت الترجمة كعنصر أساسي وركن دلالي في علوم اللغة، ويضيف: كنا على موعد في نهاية القرن الماضي مع ما عرف بالعولمة وظواهرها وأهمها المثاقفة والتواصل الإليكتروني مما أعطى بعداً ثقافياً كبيراً لعلوم الترجمة.
وهذا لا يعني أن أهمية الترجمة لم تبرز حتى حينها، بل منذ فجر التاريخ، ومع الاحتكاك الأول بين شعوب العالم أدت الترجمة دوراً أساسياً في حياة هذه الشعوب، وسمحت لها باكتشاف ثقافات جديدة لدى الآخر، وفتحت أبواباً واسعة لقيام علاقات تواصل بين مختلف الحضارات والثقافات، وبفضل حركة الترجمة اكتشفت الأديان والمعتقدات والفلسفات والعلوم، وساهمت بالتقريب بين الشعوب واكتشاف بعضهم البعض، بل أكثر من ذلك.
وبفضل الترجمة استطاعت الحضارات نفسها الحفاظ على تراثها الثقافي والعلمي، وهذا ما حصل مع الحضارات الأوروبية التي قامت على الإرث اليوناني بشكل خاص، وهذا الأخير تعرض للتلف عندما ألقيت الكتب في الأنهار والقمامة، وكان الدور الكبير للحضارة الإسلامية العربية التي التقطت هذه الكتب وترجمتها وانتفعت بها، ولما عادت الحضارة الأوروبية إلى رشدها وانتهى عصر الظلام الذي أغشى على عقولها، بحثت عن تراثها، فوجدته قد صيغ بلغة عربية، وانطلقت الترجمة بالاتجاه المعاكس.
إن هذا العلم احتل مكانته مع تطور وسائل الاتصال والتواصل بين الشعوب وأصبح جسراً وممراً بين الحضارات، وأن هذا العلم له معاييره وضوابطه وأهمها» الأمانة والتمكن العلمي واللغوي بين اللغة الأساسية للنص واللغة المراد الترجمة إليها، وعند غياب هذين العاملين نحصل على نتيجة مشوهة لدور الترجمة.
ويضيف: يجب علينا أن ندرك أولاً أن الترجمة قبل أن تكون نقلة من لغة إلى لغة، هي في إحدى دلالاتها شرحاً وتفسيراً، وهذا يتطلب فهم المترجم فهماً صحيحاً للنص الذي يريد ترجمته ويحترم معانيه ثم ينقله إلى اللغة الأخرى محترماً صيغها ومعانيها.
ومن السلبيات التي عمد إليها بعض المترجمين هو حذف مقاطع من النصوص الأصلية بحجة أنها لا تتوافق مع العادات والتقاليد أو أنها تتعارض مع ذوق القارىء، وهناك أمثلة كثيرة أساءت للنص الأساسي بحجة أن المترجم له الحق بما يسمى» حرية التصرف» ولكن هذه الحرية أتت مبالغ بها، بل إنها بدلت في فكرة النصوص، ومثالاً على ذلك نسوق ترجمة لإحدى روايات إميل زولا من الفرنسية إلى العربية، هذه الرواية حملت عنوان» دكتور باسكال» وترجمت إلى العربية بعنوان» قصة حب» لجذب القارىء، وفي هذه الرواية تقوم علاقة جنسية بين باسكال بطل الرواية وبين ابنة أخيه التي قام بتربيتها بعد أن أودعها عنده أخوه آرستيد بسبب زواجه من امرأة أخرى بعد وفاة امرأته الأولى، وتقع البنت في حب عمها وتنجب منه ولداً.
فرأى المترجم أن هذا لا يتوافق مع تقاليد القارىء العربي، فألغى نسبها وجعلها ابنة زوجة أخيه التي ولدت بالحرام قبل زواجها من أخيه وأرسلها هذا الأخير إلى الريف حيث يقيم باسكال لإخفاء غلطة الزوجة.
وهكذا لم يسىء فقط للرواية، بل لسلسلة روايات زولا، وقد أراد زولا بهذه الفاحشة أن يرمز لقضية كانت محوراً لمشروعه الروائي الذي ارتكز على تقنية عودة الشخوص في فضاء سردي تألف من عشرين رواية.
ويخلص د. فرزت إلى أن الأمثلة كثيرة والمكان لا يتسع لسردها، إلا أن هذه التجاوزات لم تقلل من الدور الذي لعبته الترجمة كجسر وممر بين الحضارات، إذ أن التراث الثقافي العالمي دخل إلى أدبنا من بابه الواسع، بل إن ألواناً وأصنافاً من الأدب كالرواية والمسرح نشأت في الأدب العربي، ويعود جزء من الفضل في قيامها إلى حركة الترجمة، وخاصة في عصر النهضة، وهذا الموضوع يستحق أن نخصص له في قادم الأيام بحثاً يبين هذه العلاقة.
التاريخ: الثلاثاء25-1-2022
رقم العدد :1080