الفضاء المكاني في الرواية التاريخية

الملحق الثقافي – فرحان الخطيب:

يقدم لنا الأديب وهيب سراي الدين روايته (حديث الذرا) على أنها روايةٌ تاريخية حينما يقول (أجل .. بعد هذا الموقف المشرف من أهل حوران، إزاء جيرانهم أهل الجبل، وبعد الهزيمة النكراء، التي حلّت بحملة «ساري عسكر»، لم يسع الوالي العثماني بدمشق «محمد القبرصي» إلّا أن يجرّب حظه، هو نفسه، مع أهل الجبل، ويثأر لكل الهزائم التي حاقت بالحملات العسكرية السابقة .. ) ص٥١.
وأهالي هذه الجغرافية يحفظون من أهلهم وعن طريق التواتر الشفهي قصة حملة محمد باشا القبرصي وتفاصيلها المشهورة تاريخيا بين سكان الجبل والحملة العثمانية ضدهم عام ١٨٥٧ م، ولأن التاريخ يكمن في تفاصيل هذه الرواية، نستعرض ماقاله الناقد الاسكتلندي «لوثروب ستودارد» في تعريف الرواية التاريخية، يقول: (إنّ الرّواية التاريخية تمثّل سجلاً لحياة الأشخاص أو عواطفهم تحت بعض الظروف التاريخية، وهذا يعتمد على عنصرين، الأول: الميلُ إلى التاريخ وتفهّمُ روحهِ وحقائقه، ثانياً: فهم الشخصية الإنسانية وتقدير أهميتها في الحياة ..). وقد أدرك سراي الدين هذه القيمة العليا في التاريخ الإنساني، فوظف رواياته منذ بداية مسيرته الإبداعية لخدمة التاريخ، التاريخ المؤطر بالفضاء المكاني الواضح وهو ساحة تواجد الآباء والأجداد وسجلهم الناصع بالبطولة والقيم، أو لنقل أنه اعتمد على التاريخ في بنائه الرّوائي، وقد أفلح في ذلك منذ روايته الأولى، بل الرواية الأولى في الجبل وعنوانها « قرية رمان: عام ١٩٦٥ التي تتحدث عن الثورة السورية الكبرى ١٩٢٥م .، ثم، «حفنة تراب على نهر جغجغ» ، بعدها «سلاماً يا ضهر الجبل» إلى «ما بين السطور مابين الصخور»..الخ، وقد بنى ذلك على قراءاته أو ما سمعه من الأهل الذين عاصروا بعضاً من هذه الأحداث والوقائع، وقد تأثر سراي الدين بكل تأكيد بالروايات التاريخية الأولى في العالم ، والتي بدأها الروائي الانكليزي «والتر سكوت» بروايته «وايفرلي» عام ١٨١٤ م، وتلاه الروسي «تولستوي» والفرنسي «إلكسندر دوما» وأما في عالمنا العربي فقد بدأت الرواية التاريخية مع الروائي اللبناني سليم البستاني بروايته «زنوبيا» عام ١٨٧١ م ، وتلاه فرح انطون ويعقوب صروف، ولكن من توضعت على يديهِ الرواية التاريخية العربية بفعل مقصود وممنهج هو الروائي اللبناني المصري جرجي زيدان ١٨٦١ – ١٩١٤ م.
وقد حاز وهيب سراي على قصب السبق لأنّه أولُ من كتب الرواية في السويداء، وفي رواية «حديث الذرا» ينصب اهتمامه على معركة تاريخية حصلت بين أهل الجبل والعثمانيين بحجة تسوية أوضاع القرى الحدودية وتثبيت تابعيتها بين الجبل والسهل، كالمجيمر والأصلحة والطيرة وخبب.
وإذا تمعنا بما كتبه الباحث في الرواية التاريخية محمد حسن طبيل بقوله: (العلاقة بين الرواية والتاريخ علاقة وشيجة وقوية، منذ نشأة الرواية كفن أدبي، إذ يُعتبر التاريخ من الروافد الأساسية التي ينهل منها الكتاب، واستعانوا بها في انتاج عدد من الروايات التاريخية التي تستلهم الماضي وتستدعيه لأغراض متعددة).
وبناء على ما تقدم نجد أن سراي الدين استلهم هذه الواقعة التي حدثنا عنها التاريخ ببضع صفحات، لينقلها إلى روايته «حديث الذرا» بأكثر من مئتي صفحة، وهنا تكمن براعته باستلهامه بؤرة الحدث، لتتسع دوائر السّرد بإجادة فنيّة لافتة دون أن يخلّ بالفضاء المكاني الذي يعتبره النقاد الأساس في الرواية، وهو الدعامة التي ترتكز عليها باقي عناصر السرد الأدبي، كالزمن والحدث والشخوص.
وفي قراءتنا للرواية نجد الفضاء المكاني والمؤلَّف من عدد من الأماكن الواقعية متطابقاً مع رواية التاريخ، وهذا أمرٌ ليس بالسهل مع البقاء على فنية الرواية، لأنّ الرواية التاريخية يتجاذبها هاجسان، الأمانة التاريخية، والفن الرّوائي وحاجاته الجمالية، وهذا ما وفق به سراي الدين كما في هذا المقطع السردي في وصف العطفة (توسطت العطفة الكتيبة الخامسة، وكانت كعروس تزفّ إلى عريسها، لقد ألبسوها الثيابَ الجميلةَ، والحللَ الفاخرةَ الثّمن، وزيّنوا جيدَها ومعصميها بأنواع الحلي المصنوعة من الذهب والفضة والزّبرجد، كما انتقوا لها ذلولاً من خيرة فصائل النوق، وأكرم سلالات الهجن، قوائمها ممشوقة كسواري الأشرعة، لونها أزرق كالفولاذ المسقى، رقبتها طويلة تتلوى كأفعى ضخمة، تنتهي برأسٍ صغيرٍ نسبياً، مكللٍ بريش النّعام، أمّا الهودج فأُثبتتْ على إيوانه المرايا والصفائح الملوّنة المشفوعة بالبراق، وتتدلى منه حبال «البراقش والدنادش» المثبتة بالشراشيب والبسط والنمارق المصنوعة من الحرير والصوف، والموشّاة بنمنمات الخرز وتخاريم الإبرة، وصار هذا الهودج مع ناقته ومركبته يتلامع بألوانه ورقوش زخارفه مثل مركب هبط من السماء، تحفُّ به الأمواجُ من رؤوس الجنود من كل جانب، وهكذا استقرّت العطفة في خدرها البهي المصان ، لتطلّ من بين ستائر النافذة برأسها المؤطر بشملة صفراء ، يهلُّ على جموع العساكر بوجهٍ منيرٍ ساطعٍ كبدرٍ ربيعيٍّ من بدور نيسان ، وكم داعبت رياح الصبا طنافس هذا الهودج وأبرادَ صاحبتهِ، كأنّ الجبلَ كانَ يرسلُ بها قبلةَ عتابٍ لابنة الجيران من أهالي حوران ، ياذات الخدرِ أين ذاهبة ، ومع مَنْ ذاهبة .!!؟؟ ) .
نلاحظ هنا التوفيق بين التاريخ وجماليات الوصف للمكان وللحدث التاريخي ، «العطفة « وهي الفتاة المحمولة في الهودج لتنخية الفرسان المهاجمين ، وأيضا رأينا تطابق هذا المقطع مع رؤية الناقد محمد القاضي بقوله ( إنّ الرّواية التاريخية رواية هجينة يتنازعها عاملان ، المرجعي والتخييلي ) وهذا ما عمل عليه بدقة وهيب سراي الدين ، رغم أنه لم يتخلّ طوال مدة السرد عن الفضاء المكاني ، والذي تعددت فيه الأمكنة التاريخية ، المتطابقة مع الأمكنة الروائية ، كقوله ( في خراج بلدة ازرع وقرى محجة والذنيبة والفقيع وتبنه شمالا والشيخ مسكين غربا ، وناحتة وانخل ورخم جنوباً ، وبصر الحرير شرقاً ، وما وراءها ، في هذه البقعة التأمت جحافل والي دمشق القبرصي ..) ص ٨٣ .
وقد كان سراي الدين واثقاً من رسم الصور القلمية البالغة الدقة ، وكأنه ينفذ مقولة
د . سمر روحي الفيصل الذي يقول : (فقد لجأ هؤلاء الروائيون إلى الوصف الذي يرسم صورة بصرية ، تجعل إدراك المكان بواسطة اللغة ممكناً ..) ص ٨٢ .
يتوافق هذا القول مع الوصف في هذا المقطع ( أجل، الكتائب أحتشدت وكانت قد نصبت منصة خشبية عالية كبيرة منذ الصباح الباكر ، في وسط سهل ازرع الفسيح ، عبرت فوقه غيوم بيضاء ندية ، اتجهت نحو الشرق ، حيث تحتضن سماؤه اللازوردية الأسيلة التلال والهضاب والأودية المحملة بأنفاس الأشجار العطرة والمتماوجة بحلل فضيّة زاهية ، نسجها ريق الصباح على هاتيك السفوح المخضرة بفعل وهج الشمس الشارقة فوقها ) ص ٨٤ .
مما سبق يدلنا على أن الأديب وهيب سراي الدين، كان حريصاً على إيراد أسماء الأماكن الحقيقية في روايته «حديث الذرا « بقدر حرصه على ألّا يغادر القيم الجمالية خلال السرد ، من وصفٍ وبلاغة واسلوب ولغة شارقة ، أضفت متعة وبهجة على الفائدة التاريخية ، التي قدّمها الكاتب ، ما تساوى مع قول جورج لوكاتش عن الرواية التاريخية بأنها ( رواية تاريخية حقيقية، أي رواية تثير الحاضر، ويعيشها المعاصرون بوصفها تاريخهم السابق ) .
وفي النهاية يثبت الروائي وهيب سراي الدين أنه من الروائيين الذين كتبوا الرواية التاريخية ، دون أن يسقطوا من حساباتهم العناصر الفنية للرواية من شخوص وأحداث وجمال في اللغة ، والقدرة على إبصال الفكرة بإسلوب ماتع وشائق.
رقم العدد : 1086 التاريخ: 8-3-2022

آخر الأخبار
"رحمة بلا حدود " توزع لحوم الأضاحي على جرحى الثورة بدرعا خريطة طريق تركية  لتعزيز العلاقات الاقتصادية مع سوريا قاصِرون خلف دخان الأراكيل.. كيف دمّر نظام الأسد جيلاً كاملاً ..؟ أطفال بلا أثر.. وول ستريت جورنال تكشف خيوط خطف الآلاف في سوريا الأضحية... شعيرة تعبّدية ورسالة تكافل اجتماعي العيد في سوريا... طقوس ثابتة في وجه التحديات زيادة حوادث السير يُحرك الجهات الأمنية.. دعوات للتشدد وتوعية مجتمعية شاملة مبادرة ترفيهية لرسم البسمة على وجوه نحو 2000 طفل يتيم ذكريات العيد الجميلة في ريف صافيتا تعرض عمال اتصالات طرطوس لحادث انزلاق التربة أثناء عملهم مكافحة زهرة النيل في حماة سوريا والسعودية نحو شراكة اقتصادية أوسع  بمرحلة إعادة الإعمار ماذا يعني" فتح حساب مراسلة "في قطر؟ أراجيح الطفولة.. بين شهقة أم وفقدان أب الشرع في لقاء مع طلاب الجامعات والثانوية: الشباب عماد الإعمار "أموال وسط الدخان".. وثائقي سوري يحصد الذهبية عالمياً الرئيس الشرع  وعقيلته يلتقيان بنساء سوريا ويشيد بدور المرأة جعجع يشيد بأداء الرئيس الشرع ويقارن:  أنجز ما لم ننجزه الكونغرس الأميركي يقرّ تعديلاً لإزالة سوريا من قائمة الدول "المارقة"   أبخازيا تتمسك بعلاقتها الدبلوماسية مع السلطة الجديدة في دمشق