الثورة – هفاف ميهوب:
لم يكن الكاتب والفيلسوف الفرنسي “جورج باتاي” وحده من تناول الموت بجميع صوره وأشكاله، وهو إن كان هاجسه، فهو لدى الروائي والشاعر الأمريكي “ويليام فولكنر” العالم الذي حفر فيه قبوره الإبداعية.. قبرٌ لـ “دخيل في التراب”، وآخر لتلك التي استدعى ما عانته، بعد أن ألهمته “بينما أرقد محتضرة”…
ربما هو رفضٌ للمحتومِ، عبر خلق عوالم من صور وكلمات تحيا وإن مات جميع أبطالها، وربّما هو استعدادٌ لتقبّل موت الحياة، عبر تصوّر ما يمكن أن يكون عليه الحال، بعد فقدانها..
ربما هو كذلك، وربما كما رآه “باتاي”: “توجيهاً للحياة” التي وجد صور التعذيب فيها لا تطاق، وقد يكون عبارة عن وظيفة اعتبرها “فولكنر”: “مهمة روحية، لدى الذين يتألمون من الضياع..”.
يختلف الأمر هنا لدى الفرنسي “موريس بلانشو” الذي لا يعتبر الموت حدثاً للنهاية، بل “صورة الغياب التي تسكن كلّ الصور”.. وهو يرى بأن “الكارثة” الحقيقية هي “الرغبة في الموت، والرغبة التي تموت، وموت الآخر الذي هو موتٌ مضاعف، لأنه يثقل النفس بهاجس الموت”…
الأمر يختلف أكثر، لدى كاتب الملاحم “يوكيو ميشيما”.. الروائي الياباني الذي عشق الموت بكلّ قسوته، وكان دائم الاستعداد لاستقباله، ولكن بطريقة الساموراي، ممن أخلص لهم بعد أن تشبّع بأفكار اليابان الجريحة، وآلمه تأثّرها بالحداثة الغربية بعد القصف النووي الذي مارسه الأمريكيون ضد سكانها في “هيروشيما” و”ناغازاكي”..
هي رؤية جسّدها في “سقوط ملاك” التي كتبها بعد أن اتخذ قراره النهائي بالموت..
كان ذلك عام 1970.. عندما اتّجه صوب القاعدة العسكرية، واقتحم مع أربعة من أتباعه معسكراً للجيش الياباني.. قيّد قائده، وخرج إلى الشرفة ليخطب في الجنود، داعياً إياهم للعودة إلى روح اليابان الأصيلة، واستعادة سلطة الامبراطور وهيبته القديمة. يقابله الجنود بالسخرية، فيسارع للانتحار ضمن طقوسٍ اعتبرها عظيمة، وبطريقة “الهارا كيري” التي جعلته يستلّ سيفه ويشق بطنه بشكلٍ أفقي، ثم عمودي.. بعدها، وتنفيذاً لوصيّته، يسارع أحد جنوده لقطع رقبته بالسيف، يفشل فيتناول جنديّ آخر السيف ويقطع رقبته، ومن ثم ينتحر بنفس الطريقة، ليكون آخر ماكتبه: “حياة البشر قصيرة، لكني أودّ أن أحيا إلى الأبد”….