شجرة عيد الميلاد والعرس

 

الملحق الثقافي – ترجمة: د. ثائر زين الدين- د. فريد حاتم الشقف:

(من مذكرات مجهول) تأليف: فيودور دوستويفسكي

شاهدتُ منذ أيام عُرساً… لكن لا! الأفضل أن أحدثكم عن شجرة عيد الميلاد. كان عرساً جيّداً؛ وقد أعجبني كثيراً، لكن الحادث الآخر أفضل. لا أعرف كيفُ خطرت ببالي تلك الشجرة وأنا أنظر إلى هذا العرس.
حصل الأمر على النحو الآتي. دعيتُ منذ خمس سنوات تماماً، قُبيل رأس السنة إلى حفلِ رقص للأطفال. الشخصُ الذي دعاني، رجلُ أعمال معروف بعلاقاته ومعارفه، وبثروته، لذلك يمكن القول :إنّ حفلَ الأطفال لم تكن سوى مُسوِّغٍ للآباء، كي يلتقوا معاً ويتناقشوا في أمور ومصالح أخرى بعفوية، كما لو أنَّ الأمر حدثَ مُصادَفةً.
أنا كنت شخصاً دخيلاً على الحفل؛ لا مصالح لديَّ مع أحد، ولذلك أمضيت السهرة دون ارتباطات تقيّدني.
وكان ثمّةَ سيّدٌ آخر، وهو على ما أعتقد، لا ناقة له ولا جمل، إنّهُ مثلي، لا قرابة تربطه بالآخرين، شخصٌ وجد نفسه ضمن فرحٍ عائليّ… وهو أوّل من لفت انتباهي. كان رجلاً طويلاً نحيفاً، جدّياً تماماً، يرتدي ثياباً أنيقة. وبدا واضحاً أنّ الفرحة والسعادة العائلية من حوله لم تكن تعنيه: وذلكَ عندما ابتعد إلى مكان ما في الزاوية، وتوقف مباشرة عن إظهار ابتسامته، وعبس بحاجبيه الأسودين الكثَّين.
لم يكن يعرف ولو شخصاً واحداً في الحفلة كلِّها ما عدا المضيف. وكان واضحا أنّه سئم حتى الملل، لكنّه تحمّل بشجاعة، وإلى النهاية دورَ الشخصِ السعيدِ والمُستَمتِع تماماً.
عرفتُ فيما بعد أنّ السيّد كان قد قَدِمَ من القرية لأداءِ عمل مهمّ جداً في العاصمة، وأحضَرَ لمضيفنا رسالةَ توصية، و تولّى مضيفُنا أمرَ حمايته ومساعدته في مهمّته بكلّ حبّ، و دعاه للمشاركةِ في حفلِهِ الذي أقامهُ للأطفال.
لم يلعب الحضور بالورق، ولم يعرض عليه أحدٌ سيجاراً، وما شاركهُ شخصٌ في حديث، لعلَّهم عرفوا الطائرَ الغريبَ عن بُعدٍ من ريشه، ولذلك اضطرّ سيّدي أن يشغلَ يديه في أيِّ شيء، فأخذ يمسّدُ شاربيه طوال السهرة. شارباه بالفعل كانا جميلان جدا. لكنّه مسّدهما بمثابرة حتى أنّكَ إذا نظرت إليه، اعتَقَدتَ أنّهما إنّما أُنتجا لأوّل مرّةٍ في هذا العالم، وقُدّما إليه كي يمسّدهما.
أعجبني أيضاً من المشاركين في هذا الفرح العائلي للمضيف، ذي الأطفال الخمسة جيّدي التغذية، ماعدا هذه الشخصيّة، سيّدٌ آخر. لكنّه كان من نوع آخرَ مختلفٍ تماماً.
كان شخصيّة مرموقة، اسمه يوليان ماستاكوفيتش. ويمكن أن تتبيّن من النظرة الأولى، أنّه كان ضيفَ شرفٍ، وأنَّهُ على علاقةٍ بالمُضيف، تُشبهُ علاقة المُضيف بالسيّد الذي مسّد شواربه.
تحدَّثَ الزوجان إليهِ بكل لباقة، واعتنيا به، وقدما له الشراب، واعتزّا به، وأحضرا ضيوفهما إليه للمَشورة، أمّا هو فما قاداه نحو أحدٍ. وقد لاحظتُ أنّ المُضيفَ، ربَّ المنزل، لمعت عيناهُ بالدمع فرحاً، عندما عبّريوليان ماستاكوفيتش عن ارتياحه للسهرة، وأنّه نادراً ما يمضي وقتاً ممتعاً كما في هذا الحفل.
انتابني بصورةٍ ما الخوفُ بوجود شخص كهذا، ولذلك مُهتَمَّاً ومُعجباً بالأطفال، انسحبتُ إلى الصالون الصغير، الذي كانَ خالياً تماماً، وجلستُ خلفَ جناحِ أزهارِ ربّةِ المنزلِ الذي شغلَ نصفَ الغرفةِ تقريباً.
كان الأطفالُ لطفاءَ كثيراً ولم يرغبوا بأن يُشبهوا الكبار، بغضّ النظر عن نصائح المُربّيات والأمهات. ولقد جرّدوا شجرة عيد الميلاد بلحظة، حتى آخر قطعة حلوى، وتمكنوا من تكسير نصفِ الألعاب، قبل أن يعرفوا من تَخصُّ كُلُّ واحدةٍ منها.
كان أحدُ الصبيان جميلاً بشكلٍ استثنائي، عيناه سوداوان، وشعرُه أجعد، وقد استمرَّ في إطلاق الرصاص عليّ من بندقيته الخشبية. لكنَّ أختَه كانت أكثر من لفتَ انتباه الجميع، هي في الحادية عشرة من عمرها، فاتنة كآمورٍ[1- صغير، هادئة، عميقة التفكير، شاحبة، ذات عينين كبيرتين متأمّلتين. لقد أزعجها الأطفالُ بطريقة ما، فمضتْ إلى ذلك الصالون، حيث أجلس أنا، وانشغلت في الزاوية بلعبتها. أشارَ الضيوفُ باحترامٍ إلى أحد التجارِ الكبارِ، والدِ الفتاة، وهمس أحدهم قائلاً: إنَّ والدها خصّصَ مبلغَ ثلاثمئة ألف روبل مهراً لها. وبينما كنت أنظر إلى أولئك الذين اهتمّوا بهذا النبأ، وقع نظري على يوليان ماستاكوفيتش، الذي وضع يديه خلف ظهره وأمال رأسه جانبا، واستمع بانتباه إلى ثرثرة هؤلاء السادة. لم أستطعْ فيما بعد إلاّ أن أُدهشَ من حكمة المضيفين في توزيع هدايا الأطفال. حيث حصلتِ الفتاةُ، التي تملكُ ثلاثمئة ألف روبل مهراً، على أغلى هديّة. ثم توالتِ الهدايا انخفاضاً؛ حسب مستوى أهل هؤلاء الأطفال السعداء. وأخيراً، حصلَ آخرُ طفلٍ، في نحو العاشرة من عمره، ضعيف، صغير، أحمر ومُبقّع الوجه، على كتابِ قصصٍ فحسب، يتحدّث عن عظمة الطبيعة، وعن الدموع والعواطف وأمور أخرى، من دون صور وحتى بلا قيمة تُذكر.
كان ابن معلمةِ أطفالِ صاحبِ البيت، وهي امرأة أرملة فقيرة ووحيدة، والطفل كان منسياً تماماً وخائفاً. كان يرتدي سترة من قماشٍ قطنيٍّ أصفرِ اللون. وعندما استلمَ كتابَهُ، طافَ وقتاً طويلاً حول الألعاب الأخرى؛ توّاقاً للعب مع الأطفال الآخرين، لكنّه لم يتجرّأ؛ فقد شعرَ بموضِعِه على ما يبدو وأدركه.
أنا أحبُّ كثيراً مراقبةَ الأطفال. وأكثر ما يثير فضولي هو ظهورهم المستقل الأوّل في الحياة. لاحظتُ أنّ الصبيَّ الأحمر أغرته ألعابُ الأطفال الآخرين الثمينة، وبخاصّة المسرح، الذي رغبَ كثيراً أن يؤديَ دوراً ما فيه، لدرجة أنّه قرّر المشاركة. ابتسمَ ومازحَ الأطفالَ الآخرين، وأعطى تفاحتَه لصبيّ سمين، يحمل منديلاً مليئاً بالحلوى، وحتى أنَّهُ قرّر أن يحملَ أحدهم على ظهره، فقط من أجل ألّا يبعدوه عن المسرح. لكنّ ما هي إلا دقيقة واحدة حتى تلقى ضربةً مؤلمةً من صبيّ مؤذ. لم يجرؤ الطفلُ على البكاء. وهنا حضرت أمّه المعلّمة، وأمرته ألّا يزعج لعب الأطفال الآخرين. دخل الطفل إلى الصالون الصغير نفسه، حيث كانت الفتاة. فسمحت له باللعب معها، وأخذا يعملان معاً بجديّة لإلباس الدمية العروس الثمينة.
كنتُ قد جلستُ نصف ساعة خلف النباتات وغفوت تقريباً، وأنا أستمعُ لحديث الصبيّ الأحمر والفتاة الجميلة التي مهرها ثلاثمئة ألف روبل والمشغولة بالدمية، حتى دخل فجأة إلى الصالون الصغير يوليان ماستاكوفيتش، الذي استغلّ شجار الأطفال وخرج بهدوء من القاعة. ولاحظت، بأنّه تحدّث منذ دقيقة بحماس إلى والد العروس الغنيّ، وقد تعرّف إليهِ لتوّه، حول أفضلية وظيفة ما على أخرى. وها هو يقفُ الآن يفكّر، وكأنّه يعدّ شيئا ما على أصابعه.
– ثلاثمئة… ثلاثمئة،- همس – أحد عشر… إثنا عشر… ثلاثة عشر وهلمج. ستة عشر- خمس سنوات! لنفترض أربعة في المئة مضروبة ب 12، خمس مرّات= ستين، وبهذه الستين لنفترض ستكون بعد خمس سنوات- أربعمئة. نعمّ! إذاً… ليس أربعة في المئة يطلب هذا المحتال! يمكن أن يطلب ثمانية أو عشرة في المئة. حسناً، خمسمئة لنفترض، خمسمئة ألف في الحد الأقصى على ما أعتقد؛ عدا عن الكسور…
عندما أنهى تأمّله وحساباته، تَمخَّط وأراد أن يغادر الغرفة، لولا أنّه نظر فجأة إلى الفتاة وتوقّف. لم يرني وأنا أقبعُ خلف أحواض النباتات. بدا لي أنّه كان متوتّراً جداً. إمّا أنَّ الحسابات قد أثّرت فيه، أو أنَّ شيئاً ما آخر، لكنّه مسح يديه ولم يستطع التوقف في مكانه. ثمَّ ازداد هذا التوتر كثيراً، عندما توقف ورمى نظرةً أخرى مركّزة على عروس المستقبل.
تحرّك إلى الأمام، لكنّه نظر فيما حوله بداية. ثم مشى على رؤوس أصابع رجليه، وكأنّه يشعر نفسه مذنباً، وأخذ يقترب من الفتاة. وصلَ إليها مبتسماً، انحنى وقبّلها على رأسها، فصرخت فزعاً تلك الصغيرةُ التي لم تتوقع الهجوم.
تَلفَّتَ حوله وسألَ الفتاة هامساً وهو يطبطبُ على عنقها:
– وماذا تفعلين هنا أيّتها الطفلة اللطيفة؟
– نلعب…
نظر يوليان ماستاكوفيتش إلى الفتى قائلاً:
– آآآ؟ معه؟
ثمَّ قال له:
– لو تذهب عزيزي أنت إلى القاعة.
صمتَ الصبيُّ ونظر إليه مستهجنا. تلفّتَ يوليان ماستاكوفيتش حوله مرّة أخرى وانحنى من جديد نحو الفتاة.
سألها:
– ماذا لديكِ، دمية ابنتي العزيزة؟
أجابته الفتاة، خجولة ومقطبةً حاجبيها:
– دمية.
– دمية… أتعلمين يا ابنتي العزيزة من أي مادةٍ صُنِعتْ دميتك؟
أجابته الفتاةُ همساً، وخفضت رأسها تماما:
– لا أعرف…
– مصنوعة يا ابنتي من القماش. وأنت أيّها الصبيّ اذهب إلى من هم في سنّك في القاعة.
قال يوليان ماستاكوفيتش ذلك، ونظر بقسوة إلى الطفل. قطّب الطفل والفتاة حواجبهم وتمسّكا أحدُهما بالآخر، غير راغبين في الافتراق.
سألها يوليان ماستاكوفيتش، خافضاً صوته أكثر فأكثر:
– وهل تعرفين لماذا أهدوك هذه الدمية؟
– لا أعرف.
– لأنّك كنت لطيفة وحسنة التصرّف طيلة الأسبوع.
هنا تَلفَّتَ يوليان مستاكوفيتش حوله وقد بلغَ التوتر منه مبلغاً كبيراً، وسألَ خافضاً صوته أكثر فأكثر، حتى يكاد لا لا يُسمَع بسبب التوتّر وفقدان الصبر:
– هل ستحبينني أيتها الطفلةُ العزيزةُ، عندما سآتي ضيفاً على والديك؟
قال ذلك يوليان ماستاكوفيتش وأراد أن يقبّل مرّة أخرى الفتاة اللطيفة، لكنّ الصبيّ الأحمر، وعندما رأى أنّها تريد البكاء، أمسكها بسرعةٍ من يدها ونشجَ باكياً مواساة لها. غضب يوليان ماستاكوفيتش غضباً شديداً،:
– اذهب، هيّا اذهب من هنا! اذهب إلى القاعة! – قال للفتى- اذهب إلى هناك إلى أصدقائك!
قالت الفتاة:
– لا، لا داعي لأن يذهب، لا داعي! اذهب أنتَ من هنا- وتابعت باكيةً – اتركه وشأنه، اتركه وشأنَه.
أثار أحدهم ضجّةً عند الباب، رفع يوليان ماستاكوفيش جسده المبجّل مباشرة شاعراً بالخوف. لكن الصبيّ الأحمر كان أشد فزعاً من يوليان ماستاكوفيتش، فترك الفتاة وخرج من الصالون إلى قاعة الطعام بهدوء متكئاً على الحائط. مضى يوليان ماستاكوفيتش كي لا يثير الشكوك إلى غرفة الطعام أيضاً، كان وجهه أحمر كالسرطان، نظر في المرآة، وقد بعث شكلُهُ الارتباك في نفسه. واضطرب من استعجاله ونفاد صبره. لعل الحساب على الأصابع قد أغراه في البداية، أغراه وألهمه، لدرجة أنّه وبمعزلٍ عن وقاره وأهميّته، قرّر التصرّف كصبيّ والانقضاض مباشرة على موضوعه الخاصّ به، بغض النظر عن أنّ الموضوع لا يمكن أنّ يصبح واقعياً قبل مرور خمس سنوات.
تبعتُ السيّدَ الموقّرَ إلى صالة الطعام وشاهدتُ منظراً غريباً. يوليان ماستاكوفيتش مضرَّجٌ بالحمرة من الغضبِ والإحباط، يبعث الخوفَ في نفس الصبيّ الأحمر، الذي يهرب منه مبتعداً ما استطاع، دون أن يدري إلى أين يفر جراء الفزع.
– اخرج، ماذا تفعل هنا، اغرب من هنا أيّها التعيس! تسرق الفاكهة هنا، أليس كذلك؟ تسرق الفاكهة؟ اخرج أيّها التعيس، اخرج أيها ألمخّاط، اخرج، واذهب إلى رفاقك!
قرّر الصبي المرعوب، اللجوء إلى وسيلة يائسة، فجرّب أن يندسّ تحت الطاولة. حينها أخرجُ الرجلُ المُنفعل كثيراً من جيبه منديل قماش طويلاً، وبدأ يهزّه من تحت الطاولة للصبيّ المستسلم تماماً.
تجدر الملاحظة بأنّ يوليان ماستاكوفيتش كان سميناً بعض الشيء. كان شخصاً حسن الغذاء، موَرَّدَ الوجه، ممتلئ الجسم، ذا كرشٍ، ورجلين سمينتين، باختصار، كان قويّاً وكُرويّاً كحبة جوز. تَعَرَّقَ، ولهثَ واحمرّ وجهه بشدّة. وأخيراً فقد كان مسعوراً تقريباً، يتملّكه الشعور بالغضب العارم، أو قد يكون ذلك (ومن يدري؟) بسبب الغيرة.
وضحكتُ ضحكةً قويّة. فاستدار يوليان ماستاكوفيتش وتملَّكهُ الإحراجُ الشديدُ بغض النظر عن أهميّته. دخل المضيف في هذه الأثناء من الباب المقابل. فخرجَ الطفلُ من تحت الطاولة ونفَّضَ ركبتيه ومرفقيه. أسرع يوليان ماستاوفيتش في رفع المنديل الذي كان يمسك به من طرفه، إلى أنفه.
نظر المضيف إلينا نحن الثلاثة مستغرباً بعض الشيء؛ لكنّه كإنسان يعرف الحياة وينظر إليها نظرة جدّية، استغلّ الفرصة التي جمعته بانفراد مع الضيف، وقال له مشيراً إلى الصبيّ الأحمر:
– هذا هو الصبيّ الذي ان كان لي الشرف أن أطلب…
أجاب يوليان ماستاوفيتش، وهو لا يزال مضطرباً بعض الشيء:
– ماذا؟
تابع المضيف بنبرة استجداء:
– ابن مُعلّمة أطفالي، المرأة المسكينة، أرملة، زوجها كان موظّفا شريفا؛ ولذلك… إذا كان من الممكن يوليان ماستاكوفيتش…
صاح يوليان ماستاكوفيتش مُتعجّلاً:
– آه، لا، لا، لا، اعذرني فيليب الكسييفيتش، من غير الممكن. لقد سويّتُ الأمر: ولا يوجد أماكن شاغرة، وحتى لو كان ثمّةَ شاغر، فإنَّ له عشرة مرشّحين، يستحقون أكثر بكثير، منه… آسف جداً، آسف جداً…
– آسف، – كرّر المضيفُ – الصبيُّ متواضعٌ وهادئ…
أجاب يوليان ماستاكوفيتش، ولوى فمه بطريقة هيستيريّة:
– إنّه سافل كبير، كما لاحظتُ – وتوجّه إلى الطفل قائلاً: اخرج من هنا، أيّها الصبيّ، لماذا أنت واقف، اذهب إلى رفاقك!
أعتقد أنّه هنا لم يعد باستطاعته التحمّل ونظر إليّ بعين واحدة. وأنا أيضاً لم أعد أستطيع التحمّل وضحكت مباشرة في وجهه. استدار يوليان ماستاكوفيتش مباشرة وسأل المضيف على مسمعي بشكل واضح، من يكون هذا الشابُ الغريب؟ تهامساً وخرجا من الغرفة. ورأيتُ فيما بعد، كيف هزّ يوليان ماستاكوفيتش رأسه غير واثقٍ وهو يستمع إلى المضيف.
عدتُ إلى القاعة، بعد أن ضحكتُ بما فيه الكفاية. وهناك كان الزوجُ العظيمُ، محاطاً بآباء وأمّهات أُسرتي المضيف والمضيفة، يتحدّثُ بحماس لإحدى السيّدات، وقد قدّموها له لتوّهم. السيّدةُ كانتْ تُمسكُ بيد الطفلةِ، التي كان ليوليان ماستاكوفيتش معها ذلك المشهد في الصالة الصغيرة، منذ عشر دقائق. وأخذ الآن ينثرُ الثناءات على جمالِ الطفلةِ، وعلى مواهبها، وتربيتها الرائعة. كان يثني أمام الأم بشكل لافت للنظر. و كانت الأمُ تسمَعُه وتكادُ دموعُها تنهمرُ من الدهشة. و كانت شفتا الأب تبتسمان فرحاً. وسَعِدَ المضيفُ بفيض السرور العام. وحتى الضيوف شاركوهم شعورهم، وتوقَّفَ الأطفالُ عن اللعب، كي لا يفسدوا الحديث. وامتلأ الهواء كلّه بجوّ الود والاحترام.
ثم سمعت بعدَ ذلك أم الطفلةِ المثيرةِ للاهتمام، والمتأثرة حتّى أعماق قلبها، كيفَ طلبتْ بتعابيرَ منتقاة من يوليان ماستاكوفيتش أن يقدّم لهم شرفاً خاصّاً، ويهدي بيتَهم عربونَ صداقتهِ الثمينةِ؛ وسمعتُ كيف قبل يوليان ماستاكوفيتش الدعوةَ بكلّ رحابة صدر، وكيف تفرّق الضيوف باتجاهات مختلفة، كما تتطلّبُ اللباقة، ونثروا أمام بعضهم البعض الثناءات الرقيقة على المضيف والمضيفة والطفلة، وبصورةٍ خاصة على يوليان ماستاكوفيتش.
سألتُ بصوتٍ عالٍ تقريباً أحدَ معارفي وكان يقفُ أقربَ من الجميعِ إلى يوليان ماستاكوفيتش:
– هل هذا السيّد متزوّج؟
رماني يوليان ماستاكوفيش بنظرة حاقدةٍ وثاقبة.
أجاب صاحبي بأسفٍ من أعماق قلبه، بسبب إحراجي المُتَعَمَّد له:
– لا.
مررتُ منذ فترة قصيرة بالقرب من الكنيسة؛ أدهشتني الجمهرةُ والحشد. تحدّثوا من حولي عن العرس. كانت السماءُ مُلبدّةً بالغيوم، وبدأ الرذاذُ يتساقط. شققتُ طريقي من خلال الحشد إلى الكنيسة ورأيت العريس. كان رجلاً صغيراً، وكُرويّاً، ومُتخماً ذا كرش، ومزيّناً جدا. ركضَ، وانهمَكَ في الأمر، ووزّعَ الأوامرَ. وأخيرا علا صوتٌ يقول :إنّهم أحضروا العروس. اندفعتُ من خلال الحشد، ورأيت فتاةً رائعةَ الجمال، ما كاد يحلّ ربيعها الأوّل بعد. لكنّ الجميلة كانت شاحبة وحزينة. نظراتُها مشتّتة؛ وبدا لي حتى، أنّ عينيها كانتا محمرّتين جرّاء الدموع التي سكبتاها لتوّهما. أعطت الصرامَةُ العتيقةُ لكلّ مَلمَحٍ من ملامحِ وجهها أهميةً و وقاراً لجمالها. لكن من خلال هذه الصرامة والأهميّة، ومن خلال هذا الحزن، بدا المظهرُ البريءُ الطفوليُّ الأوّل، وعبّر عن شيء ما ساذج تماماً، وغير مستقر، وفتيّ، وبدا كما لو أنّه ينشدُ الرحمة لنفسه دون أن يُطلب منه ذلك.
قالوا :إنّها أنهت السادسة عشرة من عمرها لتوّها. نظرتُ إلى العريس، وعرفت فيه فجأة يوليان ماستاكوفيتش، الذي لم أره منذ خمس سنوات تماماً. نظرتُ إليها… يا إلهي! ثم اندفعتُ خارجاً من الكنيسة بأسرع وقت. قيل في الحشد :إنَّ العروس غنيّة، وإنّ مهرها خمسمئة آلاف… وبعض قطع القماش…
فكّرتُ وأنا أندفع إلى الشارع- « مع ذلك كان الحساب جيّداً!».
[1 – إله الحب.

العدد 1087 التاريخ: 15/3/2022

آخر الأخبار
New York Times: إيران هُزمت في سوريا "الجزيرة": نظام الأسد الفاسد.. استخدم إنتاج الكبتاجون لجمع الأموال Anti war: سوريا بحاجة للقمح والوقود.. والعقوبات عائق The national interest: بعد سقوط الأسد.. إعادة نظر بالعقوبات على سوريا بلدية "ضاحية 8 آذار" تستمع لمطالب المواطنين "صحافة بلا قيود".. ندوة لإعداد صحفي المستقبل "الغارديان": بعد رحيل الديكتاتور.. السوريون المنفيون يأملون بمستقبل واعد باحث اقتصادي لـ"الثورة": إلغاء الجمرك ينشط حركة التجارة مساعدات إغاثية لأهالي دمشق من الهلال التركي.. السفير كوراوغلو: سندعم جارتنا سوريا خطوات في "العربية لصناعة الإسمنت" بحلب للعمل بكامل طاقته الإنتاجية الشرع والشيباني يستقبلان في قصر الشعب بدمشق وزير الخارجية البحريني عقاري حلب يباشر تقديم خدماته   ويشغل ١٢ صرافا آلياً في المدينة مسافرون من مطار دمشق الدولي لـ"الثورة": المعاملة جيدة والإجراءات ميسرة تحسن في الخدمات بحي الورود بدمشق.. و"النظافة" تكثف عمليات الترحيل الراضي للثورة: جاهزية فنية ولوجستية كاملة في مطار دمشق الدولي مدير أعلاف القنيطرة لـ"الثورة": دورة علفية إسعافية بمقنن مدعوم التكاتف للنهوض بالوطن.. في بيان لأبناء دير الزور بجديدة عرطوز وغرفة العمليات تثمِّن المبادرة مباركة الدكتور محمد راتب النابلسي والوفد المرافق له للقائد أحمد الشرع بمناسبة انتصار الثورة السورية معتقل محرر من سجون النظام البائد لـ"الثورة": متطوعو الهلال الأحمر في درعا قدموا لي كل الرعاية الصحية وفد من "إدارة العمليات" يلتقي وجهاء مدينة الشيخ مسكين بدرعا