الثورة – هيام عباس صالح:
تعالوا لنقتسم هذا العالم، خذوا كلَّ شيءٍ واتركوا لي قلب أُمي.
( مكسيم غوركي من روايته الأم ).
إن اختلفت ألواننا وألسنتنا ومواهبنا وقدراتنا، نجتمع في صورة واحدة عندما تكون النظرة لمن أبدع الله في تكوينها..
وأخصّها منذ بدء التكوين ببعض من صفاتٍ لا يمكن أن تجتمع إلّا فيمن حمّلها قلب كالبحر باتساعه وعمقه، وجعلها كنسمةٍ رقيقةٍ عليلةٍ لو نسّمت على صحراءٍ ل اخضوضرت…
فخير النساء تقاس فيما أسهمت في صُنع جيلٍ لا يُضاهي صنعُها.. إنها الأم.
فحديث المدرسة ليلى صالح من اللاذقية – عن دورها كأم كوّنت أسرة وهي في سن صغيرة، وعن دورها كمدرّسة أسست أجيالاً طيلة سنوات عديدة، حاولت رسم ابتسامة على وجهها مع تنهيدة عميقة قالت: ربّما كان من المفترض أن تسير حياتي بشكل يبدو أنّه كان في مخيلتي فقط، لكن كان للقدر رأي آخر، ورتّب أحداث حياتي بأن وجدت نفسي في عمرٍ صغير زوجة وبعد عدة سنوات أمّ لأربعة أطفال، ولكن هذا لم يزدني إلّا إصراراً لتحقيق طموحي فعدّت للدراسة لأحصل على الشهادة الثانوية، وأتممت دراستي الجامعية في اللغة العربية.
وعلى الدوام كان هاجسي أن تكون أمومتي وعملي خطين متوازيين يسيران سوياً دون أن يتقاطعا، وكنت على يقين أنه وكما عملي يحتاج لجهدٍ ومثابرة لأكون أنموذجاً للمرأة العاملة، فكذلك أمومتي تحتاج لجهود ربما مضاعفة للنجاح بتلك الرحلة الطويلة لأزرع في أبنائي الدروس التي تعلمني أياها الحياة.
وكما للظروف دائماً رأي في حياتي فقد شاء الظرف أن يغيب زوجي بقصد العمل خارج القطر، حينها وجدت نفسي على مدى عقد ونصف من الزمن، أمّاً وأباً في آن معاً، حاولت أن أكتسب شيئاً من صرامة الأب وحزمه مع ابنائه مع احتفاظي بكوني تلك الأمُّ الرؤوم، فكنت تلك الصارمة الحنونة/والقاسية اللينة
معهم، وهذا خلق بيني وبين أبنائي علاقة أشبه بالإدمان فهم كل دنيتي وكان تعلقي بهم لا يوصف، وفي خضم هذا كان علي الّا أغفل عملي كمدرِّسة وأهمية، نجاحي على الصعيدين الشخصي والعائلي، وهنا كان التحدي الأكبر ألّا انقل متاعب العمل وإرهاقاته (( اللاروتينية )) إلى أسرتي، والّا ينعكس ضغط العمل وبيئته السامة أحياناً التي قد لا تخلو من أمراض البيئة الاجتماعية المحيطة إلى منزلي الذي حاولت أن يبقى بمنأى عن عملي، وربما نجحت في ذلك إلى حدٍ بعيد.
ولأن الأمومة رحلةٌ لا تنتهي من الحب والألم والأمل.
وفي الوقت الذي أكتب به هذه السطور الآخيرة في كتاب رحلتي كأمّ ( القدر تدّخل ولكن هذه المرة بقسوة) ليحولني إلى أمّ ثكلى، فشاء الله أن أفقد في هذه الحرب فلذة من فلذات كبدي، وحجرة من حجرات قلبي الأربعة، وهو في ريعان شبابه، ليرتسم شهيدي جرحاً جميلاً نازفاً على جبين الأمومة، ولأني أمّ ورسالة الأم لا تنتهي… زرعتُ وردة أمل في قلبي علّها تصبح حديقة يستذكرني بها أولادي وربّما أحفادي في كل عيد أمّ.
* ترتيب الأولويات..
وعند محادثة سمر ( مديرة مدرسة ) من دمشق قالت: رغم مرور السنين لا زلت أذكر ذلك اليوم الذي كان من أصعب أيام حياتي الوظيفية عندما تركت طفلتي الرضيعة وذهبت للعمل فكانت حاجتها لرعايتي لا تقل عن حاجتي لتواجدي معها، واعترف بالتشتت في ذلك الوقت بين عملي وطفلتي، ولكن سرعان ما تأقلمت وأيقنت أنه في الحياة أمور لانستطيع التحكم بها، ويجب علي تحمل مسؤوليتي الكاملة وبرمجة نفسي وظروفي، وخلق الجو الذي يجعلني اتميز بعملي، وأوفر كامل الرعاية لطفلتي وهنا تبرز المقدرة الشخصية للأم العاملة على الصبر وتحمل التعب وأحياناً على حساب حياتها الجسدية والنفسية ولكن لا بأس، حين أرى النتائج فأشعر بذاتي وبنجاحي.
ومن خلال رؤيتي لنمازج مختلفة لأمهات كان دورهن مختلف حيث لا يتعبن انفسهن من أجل إيجاد التوازن بين العمل والأسرة وأحياناً كان نجاح الأم في عملها يقابله فشل في الأسرة وهذا يعود لطبيعة وبيئة المرأة.
فمهمة الأم ترتيب الأولويات وبناءً عليه تنظيم وقتها وتعويد أطفالها على تحمل المسؤولية وعدم الإتكالية، فأنا حرمت نفسي من طقوسي الصباحية التي أُحب لأكمل واجباتي تجاه أسرتي، وأنا لا أرى هذا إهمال لنفسي لأن طفلتيّ مقدستان بالنسبة لي، ورعايتهما أهم من أي شيء.
وأنا بالنسبة لهما خزان لا ينضب من القوة والدعم، وهنا لا نستطيع إغفال دور الزوج في مساندة الأم في تحمل بعض أعباء المنزل كي تستطيع الاستمرار والنجاح في مهماتها داخل المنزل وخارجه وخصوصاً في هذه الظروف القاسية فمسؤوليتي أصبحت مضاعفة.
وتعتقد سمر أنه من الصعب إقصاء مشاكل العمل وعدم تأثر المنزل بها، بشكل كامل، والعكس صحيح. ونلاحظ المرأة المستقرة في حياتها الأسرية يبدو تأثير ذلك واضحاً على تميز إنجازها بالعمل.
ولو كنت في موقع أخذ القرار لكان من أولى قراراتي جعل إجازة الأمومة سنة كاملة، وأعتقد أن هذا سينعكس إيجابياً من الناحية النفسية والجسدية على الأم والطفل، وعلى الأسرة، وبالتالي على المجتمع ككل.
وعند الحديث عما يعني لها عيد الأم تغيّرت معاني وجهها وتحولت لطفلة يعذبها الشوق لوالدتها وقالت لقد تغير مفهوم عيد الأم بعد أن أصبحت أمّاً، ولكنني مازلت أحنّ إلى منزل والديّ وتفاصيل عيد الأم مع والدتي وأخوتي.
ضياء قدور: مديرة مكتب الفضائية التربوية بحلب، ترى أنه في السابق كان عيد الأم مناسبة هامة عندي فلدي أمٌّ أقدسها… أقدّم لها التهنئة، وأحتفل بها وأخصها بأجمل الهدايا، وفي البيت أنا أمٌّ لولدين يقوم زوجي بمرافقتهما لانتقاء الهدايا لي، ورغم علمي أن زوجي هو من يدفع ثمنها إلّا أنني كنت أفرح بها كثيراً فيكفي أنهما قاما بانتقائها.
والأم هي أم سواء أكانت إعلامية أو ربة منزل والشعور واحد، أما كوني والدة شهيد فهو أمر آخر، ففقداني لولدي وهو بعمر الزهور لم يكمل العشرين من عمره جعل عيد الأمّ حزيناً جداً خاصة أن ولدي استشهد في السابع من آذار اي قبل عيد الأم بأسبوعين.
فهو ولدي البكر وكنت كأي أمّ أحلم برؤيته ناجحاً وأحلم بليلة زفافه وأحلام كثيرة غيرها تبددت باستشهاده… فلم يكن بالنسبة لي مجرد ابن ، بل كان وطناً وأنا الأن في غربةٍ قاسية بعد أن فقدت وطني.
وأعتقد أن الأمّ العاملة في أي مجال لديها مسؤوليات مضاعفة والأم الإعلامية تتضاعف مسؤولياتها أكثر، فالتوازن هنا شبه مستحيل لأن العمل يأخذ الحيّز الأكبر.
أنا وزوجي نعمل في نفس المجال فأنا مراسلة وهو مصور وولدي الشهيد أيضاً كان مصوراً لصالح الإعلام الحربي، وهذا جعله يغيب أياماً متواصلة عن المنزل وكان قليلاً ما نلتقي، وهذا شكّل معاناة لولدي الثاني، فدائماً كنّا نحن الثلاثة خارج المنزل وهذا ما جعل التوازن بين العمل والبيت أمراً صعباً.
كما أنه من الصعب أن تكون المرأة الإعلامية بمفردها بالعمل وهذا بحد ذاته تحدٍ كبير ولكن بالنسبة لي لم أعاني من هذا الجانب بحكم عملنا معاً أنا وزوجي وهذا يؤمن لي الراحة النفسية.
وعند سؤال الزميلة ضياء لو أنها في منصب يمنحها فرصة اتخاذ القرار فما هو قرارها الأول بشأن الأمهات الإعلاميات قالت: برأيي عندما تكون الإعلامية أماً فهذا منصب كبير ومهم ولا تحتاج لمن يقرر بالنيابة عنها لأنها اتخذت قرارها بالعمل رغم صعوباته، فهي تحتاج فقط للدعم والتقدير.
تقول غالية محمد ( موظفة ): إنها تواجه صعوبة في تعلم العيش لحظة بلحظة، فعندما أكون مع أطفالي أفكر بالعمل، وفي العمل أفكر بأطفالي، فمشكلة الأمّ العاملة ليست بجدولها المضغوط بالعمل ولكن تبدأ مشكلتها وتوترها عند العودة إلى المنزل وما قد لا تتوقعه أن عائلتها تشعر بتوترها دون أن تعطيها مبرراً. لذلك عليهم معرفة طبيعة عملها، و أن يصبح جزءاً من حياتهم أيضاً.
والتوفيق بين العمل وواجبات الأمومة صراع يومي مستمر يستنزف طاقة الأمهات العاملات، علماً أن الأمومة وظيفة بحد ذاتها.