الغوص فيما وراء الدوافع

الملحق الثقافي – سلام الفاضل:

يقول سقراط: «إن الحكمة الحقيقية التي يمكن أن يحوز عليها كل منا هي عندما يدرك كم هو قليل ما يفهمه في الحياة، وفي ذاته، وفي العالم المحيط به». وإذا اتخذنا هذه المقولة مدخلاً ننشئ عليه كلامنا، فإننا سندرك أن طَرْفنا مهما امتد واسعاً في الأفق، سيظل قاصراً عن إدراك كنه علوم بعينها، أو أساليب فكرية، أو أسس نفسية، أو سوى ذلك ما لم يتلقف كل جديد حولها يمكّنه من تلمس وفهم أبجديتها.
وبإمكان العلوم النفسية غالباً، أن تقدم لنا كثيراً من الأجوبة، عندما يقف إدراكنا عاجزاً عن فهم تصرفات بعينها مورست، أو تمارس في حقنا.. فمن البديهيات التي يمكن أن ترد على بال أشخاص كُثر أن الإنسان يتكوّن عادة من أعضاء حية، ونفس بشرية، وكما تصاب هذه الأعضاء عادة بالعطب، فإن النفس البشرية، ونظراً لممارسات، أو ظروف بعينها قد يتخللها الأذى، وتبعاً لدرجة هذا الأذى، ومقدرة الإنسان التحكم فيه، قد تظهر بعض الاضطرابات النفسية التي قد تتراوح شدّتها في نفوس بعض البشر، فتحكم تصرفاتهم، وردود أفعالهم.. وغالباً ما حفل الأدب بمثل هذه الشخوص التي بنيت على سوداوية دواخلها، أو تضارب أفعالها، أو دناءة استخدامها الآخر خدمة لنوازعها ورغباتها كثير من القصص، والروايات العالمية التي نالت حظوة عند الجمهور.
والتحكّم الخفي بالإنسان هو شكل من أشكال التأثير على الآخرين، والتحكّم بلاوعيهم دون أن يحسوا بذلك، وبصرف النظر عن إرادتهم الشخصية، وبالاعتماد على احتياجات الإنسان، التي صنّفها أ. ماسلوي وفق التصنيفات التالية: (الاحتياجات الفيزيولوجية «طعام، ماء، سكن، راحة،.. إلخ» – الحاجة إلى الأمان – الحاجة إلى الانتماء إلى جماعة ما – الحاجة إلى الاحترام والتقدير – الحاجة إلى تقدير الذات)، يضاف إليها الحاجة إلى الأحاسيس الإيجابية.
ولكن هل من الأخلاق التحكّم بشخص آخر بشكل خارج عن إرادته؟؟ في الجواب عن هذا السؤال ينبغي الاستناد إلى درجة أخلاقية صاحب المبادرة، فإن كان هدفه الحصول على مصلحة شخصية على حساب الضحية، فإن ذلك يسمى تلاعباً، وهو أمر غير أخلاقي بالتأكيد؛ بيد أن التحكم إن كان يخفي خلفه أهدافاً نبيلة كأن يوجّه مثلاً الأب طفله بشكل لطيف ورقيق بعيداً عن الأوامر ليدفعه بشكل غير مباشر إلى العمل في الاتجاه الصحيح، أو في العلاقة المتبادلة بين الرئيس والمرؤوس، فإن التحكم هنا لا يُعدّ تلاعباً، بل إنه يصون كرامة الآخر ووعيه بحريته الشخصية.. كما أننا قد نرى أشكالاً أخرى من التحكّم الخفي بالآخرين تأتي من خلال الثرثرة بالأفواه، أو عدوى الأقران، أو الإعلانات التجارية، أو غير ذلك.
وكتاب (التحكم الخفي بالإنسان) تأليف: فيكتور بافلوفيتش شينوف، ترجمة: د. غسان محسن المتني، الصادر ضمن «المشروع الوطني للترجمة» عن الهيئة العامة السورية للكتاب يتحدث عبر أبوابه الأربعة، وفصوله ثمانية عشر عن أساليب التأثير على الناس، والأساليب السيكولوجية للتحكّم الخفي، وتقنياته، ومخططه، وفي هذا يقول مؤلف الكتاب: «يحتوي التحكّم الخفي في طياته على مراحل عدة تبدأ بجمع المعلومات حول من يُطبَق عليه التأثير، ثم كشف أهداف التأثير، فالجاذبية، فالانتقال إلى إجبار من يقع عليه التأثير على العمل، لتنتهي هذه المراحل بفوز المبادر بالتأثير».. وفي أغلب الأحيان لا يكون التحكّم الخفي أمراً بالغ التعقيد هكذا، إذ يجري بشكل أكثر بساطة، ويتضمن جزءاً فقط من الكتل الموصوفة مسبقاً.. ويتابع مؤلف الكتاب كلامه في السياق ذاته: «ويمكن الإجبار الخفي على الفعل بطرق كثيرة منها: استخدام صفقات مناسبة – تحضير المعلومات المنقولة للمرسل إليه – وسائل الإقناع – الخدع النفسية والوسائل البلاغية».
ويتطرق هذا الكتاب أيضاً إلى الإجراءات الوقائية المستخدمة للحماية من التحكّم الخفي والتلاعب، وفنون التحكم الخفي في حياتنا، ويعرض المؤلف لكل ذلك عبر سوق أمثلة كثيرة على استخدام هذه الآلية وتطبيقها على العلاقات الإنسانية ككل، ويخلص إلى رسالة مفادها أن من يرغب الظفر بالكثير عليه الاعتماد على عقله وتفكيره، «إذ إن التسلل إلى عالم الخطر – كما يقول (مونتن) – يعني بدرجة ما التوقف عن الخوف منه».. وهكذا يكون المؤلف في هذا الكتاب قد قدم مادة كافية للاقتناع بمدى تغلغل التحكم الخفي، وتنوعه الأناني في حياتنا بعمق، أي (التلاعب)، داعياً القرّاء ممن وقع منهم ضحية للتلاعب إلى إيجاد الطرق الملموسة في الكتاب للدفاع عن أنفسهم، وآملاً من الآخرين الاطلاع عليه كي يفهموا معنى التحكم الخفي، وأشكاله، وأساليبه.
لوغاريتمية الحماية من التحكم الخفي
«إن رؤية المشكلة أصعب بكثير من إيجاد حلّ لها، فالرؤية تحتاج إلى الخيال، بينما يحتاج الحل إلى المهارة فقط».
انطلاقاً من هذه المقولة لـ (دجو بيرنال) يمكن القول إن التحكم الخفي بالإنسان لا يتطلب دائماً الحماية منه، إن كان لا يسبب ضرراً بالمتلقي، بيد أن الوقاية منه تظل واجبة، وعليه يمكن العمل وفقاً لنقاط عدة تندرج تحت نوعين من أنواع الحماية، وهما: الحماية المسبقة، والحماية المباشرة (فعالة وسلبية).
وعند الولوج إلى موضوعة الحماية المسبقة يمكن أن نستفيد من جملة إجراءات وقائية قد تساعدنا على الحماية من التحكم، ومنها: ألا نقدم كثيراً من المعلومات عن أنفسنا، فعلى سبيل المثال، هناك مثل إنكليزي يقول (بيتي هو قلعتي) وقد انطلق الإنكليز في صياغتهم هذا المثل من عادة درجوا على اتباعها وهي عدم الرغبة في دعوة الضيوف كثيراً إلى منازلهم، فالمنزل عندهم هو رمز الاستقلالية من جانب، ومصدر كبير للمعلومات الشخصية من جانب آخر.. كما أن الحفاظ على الحدود والمسافات، والتزام المعايير الأخلاقية، والتواضع والحزم، وعدم التنبؤ يعتبرون من أبرز الإجراءات الوقائية في الحماية؛ فشكسبير الكاتب المسرحي الكبير، والعالم النفسي العظيم استعمل كثيراً من التلاعبات في أعماله، ومن ذلك مسرحيته (هاملت) التي وصم فيها بطله «هملت» بالجنون حماية له من التلاعب، ودرءاً له من أن يكشف.
أما الحماية المباشرة فتأتي على شكلين، يتجسد الأول منهما في الحماية السلبية التي تأتي في تأخير ردود الفعل العفوية عند المتلقي مما يثبط وتيرة الهجوم، فيجبر المتلاعب إما على كشف خططه، أو التخلي عنها، ومن ذلك ما كان من عادة الناشط السياسي، ورئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو الذي لم يقل كلمة «لا» أبداً، فإن تقدموا إليه باقتراح لم يعجبه صَمَتَ فقط، لتكون النتيجة في هذه المبارزة النفسية واحدة دائماً، وهي تراجع الجليس دون الحصول على مراده.. في حين يُطلق على الشكل الثاني من الحماية المباشرة اسم الحماية الفعالة، هذا الشكل الذي يُطبق فقط حين لا يكون موضوع التلاعب مرتبطاً (خدماتياً ومادياً) بالمتلاعب به، لأن المتلاعب سيرد، فوراً أو لاحقاً، بجين للنزاع أشد قوة، مما سيؤدي في النهاية إلى نزاع مفتوح يصبح فيه المتلاعب به غير مهتم على الإطلاق؛ وعليه فإذا كانت الحماية السلبية تعني «إيقاف المعتدي»، فإن الحماية الفعالة تقوم بفضحه وتوجيه ضربة جوابية له.
وفي الختام يمكن القول: «إن الإنسان لم يعطَ العقل كي يرى، بل كي يتوقع، فالمعرفة تبرر نفسها إذا ساعدت بالإدراك»، وعليه فإن إدراك النفوس البشرية، والظروف المحيطة بها، وما يعتمل في خفاياها من أطوار قد يجنبنا كثيراً من الصدمات، ويساعدنا في توقع غير المتوقع.
العدد 1089 التاريخ: 29/3/2022

آخر الأخبار
بعد توقف سنوات.. تجهيز بئر مياه تجمع «كوم الحجر» "موتوريكس إكسبو 2025" ينطلق الثلاثاء القادم رؤية وزارة التربية لتشريعات تواكب المرحلة وتدعم جودة التعليم العودة المُرّة.. خيام الأنقاض معاناة لا تنتهي لأهالي ريف إدلب الجنوبي منظمة "رحمة بلا حدود" تؤهل خمس مدارس في درعا مجلس مدينة سلمية.. مسؤوليات كبيرة و إمكانات محدودة إنقاذ طفل سقط في بئر مياه بجهود بطولية للدفاع المدني  المجموعات الخارجة عن القانون في السويداء تخرق وقف إطلاق النار هجمات " قسد " و" الهجري " .. هل هي صدفة  أم أجندة مرسومة؟! تجربة إقليمية رائدة لوفد من الاتصالات وحداثة النموذج الأردني في تنظيم قطاع الاتصالات والبريد  صعود الهجري وتعقيدات المشهد المحلي في السويداء.. قراءة في ملامح الانقسام والتحوّل  العائدون إلى ريف إدلب الجنوبي يطالبون بإعادة الإعمار وتأمين الخدمات الأساسية رغم التحديات الكبيرة.. انتخابات مجلس الشعب بوابةٌ للسلم الأهلي  اختيار الرئيس 70 عضواً هل يقود إلى ... صناعيون لـ"الثورة": دعم الصناعة الوطنية ليس ترفاً المجمع الإسعافي بمستشفى المواساة الجامعي .. 93 بالمئة إنجاز يترقب قراراً للانطلاق باحث اقتصادي يقترح إعداد خطط لتخفيض تكاليف حوامل الطاقة  حلب تضع خارطة طريق لتطوير البيئة الاستثمارية وتعزيز التنمية الاقتصادية اختتام امتحانات الثانوية العامة.. طلاب حلب بين الارتياح والترقّب  الثروة الحراجية في درعا.. جهود متواصلة تعوقها قلّة عدد العمال والآليات دعم الأميركيين لحرب إسرائيل على غزة يتراجع إلى أدنى مستوى