لكل منا حلمه الكبير الذي يؤمن به فلا يستبدله بآخر، لا بل إنه يضعه على قمة أحلامه وهو يسعى إلى تحقيقه، وفي بعض الأحيان قد يبذل أحدنا أقصى ما يستطيع من التضحيات في سبيله حتى ولو كلفه هذا الأمر أن ينفق لأجله عمراً بأكمله.. إلا أننا مهما كنا أقوياء، وأصحاب عزيمة، وإصرار فإننا نظل بحاجة لمن يؤمن بنا، وبقدراتنا أيضاً لنستمر قُدماً في لعبة الحياة، ومهما كان هذا الآخر صغيراً حتى ولو كان طفلاً.
وهنا تحضرني رائعة (إرنست همنغواي) صاحب (نوبل) للأدب، والتي جسَّد فيها عظمة الحلم الإنساني، وهي رواية (الشيخ والبحر)، وبطلها (سنتياغو) الشيخ الذي تبع حلمه حتى أعالي البحار ليقبض عليه متمثلاً بصيد ثمين يعود به منتصراً.. وأذكر أنني في صغري عندما شاهدت ذلك الفيلم الذي يجسد الرواية كنت مأخوذة بمغامرة البحر بما فيها من خطر، ورهبة، وخاصة عندما ثارت العاصفة وكأنها الإنذار المبكر بحلمٍ مدمر، لدرجة أنها مشهدها ظل عالقاً في مخيلتي طوال تلك السنوات التي تفصلني عن ذاك المشهد.
إلا أن إصرار الشيخ على مقاومة مفاجأة البحر العاصف، وأسماك القرش المفترس لم يكن لينبع من صراع البقاء بل من الكبرياء كجانب من جوانب احترام الذات، فكرامته في تلك اللحظة المضطربة بين الربح والخسارة وهو يرى انعكاسها في عين مرافقه اليافع الصغير كانت أغلى لديه من حياته التي يمكن أن تضيع بلمح البصر بضربة موجة عاتية.. فالمغامرة إذن لم تكن سوى مغامرة حياة لمن فتح صدره للحياة.
لقد أراد (همنغواي) أن يطرح في رائعته تلك عن ذلك الشيخ الذي أنهكت جسده الأيام دون أن تنل من عزيمته مقولة أن يثق المرء بذاته، وبقدراته، وبأحلامه، واحترامه لنفسه مع الكبرياء يجعله يجد مَنْ يثق به.. خاصة إذا ما جاء ما يقتنص الأحلام فعند ذلك لا يعود الصراع من أجل البقاء، وإنما من أجل الحفاظ على الحلم الكبير مع الكبرياء.. وهل أثمن من الكبرياء؟.. فكيف إذا تحطم؟؟.
ذلك اليافع كان واثقاً من قدرات الشيخ، ومن مهارته في الصيد رغم الحظ العاثر الذي رافقه لوقت طويل، وهذا هو ما كان ينقص الشيخ حتى يؤدي مهمته بشجاعة وبسالة فائقتين، فهو إذ يطارد حلماً لم يكن بمفرده يسعى إليه بل إن شخصاً واحداً فقط آمن به كان يكفيه ليشحذ طاقته نحو تحقيق ذلك.
لازلت مأخوذة بهذا الفيلم القديم وقد رسّخ المعنى العميق الذي أراده الكاتب في روايته.. وكأن السينما العالمية في سنوات مضت كانت تنتقي مقولات أكثر فكراً، ونضجاً مما هي عليه الآن لتخرج بها فيلماً هوليودياً يصادر إعجاب الجماهير على مدى عقود من الزمن، وعلى خلاف ما أصبح يستقطب إليه الآن من عناصر الإثارة، والحركة في العمل السينمائي بما يتناسب مع مضامين جديدة تبدو أكثر جاذبية للمشاهد إلا أنها أكثر سطحية بآنٍ معاً.
وإذ أعيد اكتشاف (سنتياغو) من جديد كبطل روائي، لاشك أن له مَنْ يوازيه في الحياة الحقيقية، أجده وهو يعود مع فتاه من تلك الرحلة المغامرة، وبالرغم من أن سمكته العملاقة التي اصطادها قد نهشتها أسماك القرش، ولم تبقِ منها إلا قليلاً، أقول أجده ظلَّ مزهواً بها كعلامة نصر، وفوز، واقتناع بأن تغيير الأهداف في الحياة هو أمر مدمر حتى ولو جاء ما يقتنصها، والصراع عندئذ لا يعود صراعاً من أجل البقاء وإنما من أجل الحفاظ على الكبرياء، وعلى الحلم الكبير، والإبقاء على ذلك الآخر الذي آمن بالنموذج المثال.
وها هي تجاربنا إذ توثقها ذكرياتنا كأثمن ما نملك فذلك لأنها حقيقة ذواتنا، وما الفوز الحقيقي لنا إلا فوزنا بالتفوق على الذات كسبيل للوصول إلى حلم كان يبدو مستحيلاً وهو بين أسنان أسماك القرش تقبض عليه لتلتهمه.
(إضاءات) ـ لينــــــا كيـــــــــلاني