لا تكمن الغاية في استحضار مناسبات وأحداث مضت في النفخ في ذاكرة جماعية أو القاء المسؤوليات على هذه الجهة أو تلك أو ذلك الشخص أو غيره وإنما استخلاص العبر والاستفادة من الأخطاء إن وجدت والعمل على تلافيها إضافة إلى استبصار المستقبل وهذا هو الأكثر أهمية فالماضي حتماً لن يعود ولكن الأحداث تتكرر في أكثر من صيغة وشكل وظرف فمع مرور خمس وخمسين عاما على عدوان الخامس من حزيران عام ١٩٦٧ حين قام العدو الصهيوني بعدوان غادر على كل من سورية ومصر ولاحقا عبر الضفة الغربية لنهر الأردن واستطاع من خلاله احتلال غزة وشبه جزيرة سيناء في مصر وجزء من الجولان العربي السوري والضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية حيث جاء ذلك العدوان في سياق الطبيعة العدوانية والتوسعية للبؤرة الاستيطانية التي تسمى (إسرائيل) مدعوماً من القوى الغربية وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا وألمانيا الغربية آنذاك وبمباركة من دول إقليمية منها ايران الشاه وكان من أهداف العدوان إلى جانب التوسع إسقاط الأنظمة التقدمية في كل من سورية ومصر والقضاء على كل أشكال المقاومة حيث كان قد مر عامان على انطلاقة منظمة التحرير الفلسطينية وبداية الكفاح المسلح والمنظم بدعم من سورية ومصر والجزائر 1965 .
لقد اعتقد قادة الصهاينة آنذاك انهم بتحقيقهم الانتصار في تلك الحرب الخاطفة انهم سيخضعون الإرادة السياسية وجذوة النضال عند السوريين والمصريين والفلسطينيين والعرب على وجه العموم ويدخلونهم في حالة من اليأس والهزيمة النفسية عبر الاستثمار في النجاح الخاطف الذي تحقق وإضفاء صفة القوة الخارقة على جيشهم بدعوى انه الجيش الذي لا يقهر والذراع القوية علما أن رئيس وزراء الكيان آنذاك ليفي اشكول كان قد كتب في مذكراته انه كان يبكي طوال الليل عندما كان يستمع عبر الإذاعات العربية عما سيحل (بإسرائيل وشعبها) اذا ما هاجمها العرب.
ومع أن المزاج العام في ذلك الكيان الذي أصابته نشوة الانتصار كان معتقداً في غالبيته الدينية الحسيدية أنه (انتصار إلهي) بفضل الرب (يهوه) ما زاد من سطوة تلك الجماعات الدينية وجورها السياسي وتحولها من هامش النشاط والحضور السياسي إلى المركز وبدء تراجع الأحزاب التي توصف بالعلمانية كحزب الماباي والعمل لصالح الأحزاب الدينية المتطرفة ولاسيما الليكود واغودات إسرائيل.
لقد خاب ظن القادة الصهاينة باعتقادهم أن الهزيمة العسكرية سوف تؤدي بمصر وسورية إلى الاستسلام والاعتراف بالكيان الصهيوني فعلى العكس من ذلك تماما خرج السوريون والمصريون رافضين للهزيمة مطالبين بالثأر من العدو الصهيوني هذا على المستوى الشعبي أما على المستوى السياسي فقد انعقدت قمة عربية في الخرطوم بعد شهرين من ذلك العدوان وكانت اللاءات الثلاثة لا صلح لا اعتراف لا مفاوضات مع العدو الصهيوني وكانت ردا صاعقا على عنجهية العدو وحلفائه الذين أعماهم وهج النجاح في الحرب.
لم تكن لاءات الخرطوم تتحرك في فراغ فقد بدأت القوات المسلحة العربية السورية والمصرية استعداداتها للثأر من العدو ولم يمر سوى وقت قليل حتى استطاعت القوات المسلحة المصرية تدمير أكبر بارجة إسرائيلية هي إيلات وعلى الجبهة السورية لم تتوقف الاشتباكات بين القوات المسلحة السورية وقوات الاحتلال في الجولان إلى جانب المقاومة الشعبية التي أبداها أهلنا هناك كما ازدادت وتيرة العمل الفدائي عبر منظمتي العاصفة والصاعقة وتشكلت قاعدة مقاومة فلسطينية قوية في الداخل الفلسطيني وفي الأردن استطاعت المقاومة الفلسطينية بالمشاركة مع القوات المسلحة الأردنية في آذار 1968 أن تلحق هزيمة بالعدو الصهيوني في معركة الكرامة ما شكل أول هزيمة عسكرية للعدو منذ استزراعه عام ١٩٤٨. وبعد ذلك بعدة اشهر بدأ الجيش المصري حرب استنزاف كلفت العدو الإسرائيلي كثيرا ما حدا بالإدارة الأميركية اطلاق ما سمي مبادرة روجرز للسلام وقبلتها مصر نهاية صيف عام ١٩٧٠بعد فشل مهمة المبعوث الدولي غونار يارنغ وفي تلك الأثناء اندلعت أحداث أيلول ١٩٧٠ بين الجيش الأردني والمقاومة الفلسطينية انتهت بخروج المقاتلين الفلسطينيين من الأردن إلى لبنان واعقب ذلك الوفاة المفاجئة للرئيس المصري جمال عبد الناصر ما سبب ضربة قوية لجبهة المقاومة المتمثلة في سورية ومصر والمقاومة الفلسطينية وترك فراغا في الساحة السياسية في فضائها القومي سرعان ما عاد اليه الأمل بقيام الحركة التصحيحية التي قادها القائد الخالد حافظ الأسد فأنعشت الأمل باستعادة زخم العمل القومي وتعزيز جبهة المواجهة مع العدو الصهيوني استمرارا في الاستعداد للثأر من نكسة حزيران ١٩٦٧.
وبالفعل جرى تنسيق سوري مصري عالي المستوى وبدأت سورية ومصر وليبيا خطوات وحدوية تكللت بإعلان قيام اتحاد الجمهوريات العربية في ١٧-٤-١٩٧١ ما عزز امل الجماهير العربية بالوحدة وتحرير فلسطين وتم تشكيل قيادة عسكرية موحدة سورية مصرية استعداداً لحرب تشرين التحريرية وهذا ما حصل بالفعل في السادس من تشرين الأول عام ١٩٧٣ بقيام الجيشان السوري والمصري بهجوم في وقت واحد لاستعادة الأراضي العربية المحتلة ولتكون أول حرب يشنها العرب بمواجهة العدو الصهيوني شكلت علامة فارقة في تاريخ العرب الحديث ولكن ومع الأسف كان للدخول الأميركي على خط السياسة المصرية تأثير سلبي على النتائج السياسية للحرب واستثمارها في غير ما جرى التخطيط له والاتفاق عليه بين القيادتين السورية والمصرية ما افرغ الانتصار الكبير من بعض مضامينه ومع ذلك شكلت حرب تشرين متغيرا أساسيا في معادلة الصراع العربي الصهيوني وإعادة الاعتبار للمقاتل العربي ومحت الأسطورة التي حاول الصهاينة ترسيخها في الوعي الجمعي العربي تجاه العدو الصهيوني وأظهرت العرب أمام الرأي العام العالمي بصورة مختلفة طوت الصورة التي كادت تترسخ بعد نكسة حزيران .
إن اهم الدروس المستخلصة من نكسة حزيران هي أن النكسة العسكرية لم تتحول إلى هزيمة سياسية أو معنوية وأن العدو الصهيوني يعتمد الحروب الخاطفة وليس لديه القدرة على القيام بحروب طويلة ولعل هزيمته في لبنان عام ٢٠٠٦ هي الدليل الأبرز على ذلك ناهيك عن أن العدو لا يستطيع خوض حرب العصابات أو مواجهة المقاومة الشعبية إضافة إلى حقيقة انه يعتمد على قاعدة تفريق الصف العربي والمقاوم لكي ينفرد في الأطراف على قاعدة فرق تسد كما فعل في كامب ديفيد ومن ثم أوسلو ووادي عربه إضافة إلى اعتماده على العامل الخارجي في خوضه الحروب ضد العرب واعتماده عنصر المفاجأة والمباغتة والخداع والحرب النفسية وإضعاف الروح المعنوية للخصم من خلال تضخيم قوته وقدراته القتالية.
لقد اثبت تاريخ الصراع مع العدو الصهيوني ان اللغة الوحيدة التي يفهمها هي لغة القوة وأن الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني في مواجهته هي البندقية المقاتلة والمقاومة ولا شيء غير ذلك.