“عهد القطبية في العالم انتهى، ولم يعد ممكناً تجاهل مصالح مراكز القوى الجديدة في العالم، ومن يمسكون بقيادتهم الوهمية للعالم يرتكبون خطأ فادحاً سيكلفهم غالياً”، هذه الحقيقة التي أكدها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل أيام في خطابه أمام مؤتمر سان بطرسبورغ الاقتصادي الدولي، بدأ العالم يتلمسها، ويعيش تداعيات ومفرزات مخاض ولادة النظام العالمي الجديد متعدد الأقطاب، حتى الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة باتت تدرك هذه الحقيقة، ومسؤولو هذه الدول بدؤوا يقرون ويعترفون بها، ورغم ذلك فإن واشنطن لا تريد التسليم بواقع المتغيرات الدولية الجديدة، وتصر على التمسك بقيادتها الوهمية للعالم.
أفول القطبية الأحادية، تؤكده مجريات الأحداث الحاصلة على المسرح العالمي، ويثبته الفشل الأميركي المتراكم على أكثر من جبهة دولية، حيث سياسة العسكرة التي تمارسها الولايات المتحدة، باتت تلقي بارتداداتها العكسية على المصالح الأميركية، وعلى أمن واستقرار واقتصادات الدول الحليفة لها- والدول الأوروبية في المقدمة- والكل يلاحظ أن مسألة تعزيز قدرات “الناتو” بهدف الهيمنة والتوسع، دفعت الدول الأخرى المستهدفة لتثبيت معادلات أمن جديدة من خلال تطوير قدراتها الدفاعية، فباتت رادعاً قوياً يُحسب لها ألف حساب، كذلك فإن إنشاء التحالفات الدولية، وتقسيم العالم لـ”أصدقاء وأعداء”، لم تسعف واشنطن في تثبيت هيمنتها الأحادية.
الحرب بالوكالة، التي تشنها الولايات المتحدة وحلفاوها الأوروبيون ضد روسيا عبر البوابة الأوكرانية، تثبت مجرياتها وتطوراتها أن كفة الانتصار تميل لمصلحة روسيا، وليس للغرب، وكذلك هي العقوبات فقد أخفقت في عزل روسيا، وارتدت وبالاً على دول الاتحاد الأوروبي ومواطنيه، وأيضاً فإن تحالفات واشنطن ضد الصين أثبتت عقمها، وبات التحالف الاستراتيجي بين موسكو وبكين يفرض حضوره وتأثيره القوي على الساحة العالمية، وفي ذات السياق، فإن محور المقاومة في المنطقة بات مستعصياً على كل المخططات الأميركية والصهيونية والغربية ، وإدارة بايدن سرعان ما اصطدمت بواقع عجزها عن إخضاع دول هذا المحور، وفي المقدمة سورية وإيران.
في ظل الأحداث الساخنة التي يشهدها العالم اليوم، فإن الولايات المتحدة تصارع لتثبيت مكانتها القيادية، وهي تستعين بأتباعها الأوروبيين لأجل هذا الهدف، ولكنها تقف عاجزة أمام التحالفات المتنامية بين جميع الدول التي أدرجتها في خانة ” الخصوم والأعداء”، ولم تستطع هي وحلفاؤها تغيير مسار التوازنات الدولية الجديدة، وتعاطيها الخاطئ مع الأحداث الجارية، يعطي صورة واضحة عن حالة الإنكار للواقع التي تعيشها الإدارة الأميركية، وإلى جانبها الحكومات الأوروبية، وهذا مؤشر قوي على أن الغرب بدأ يستشعر قرب زوال هيمنته الأحادية، ولم يعد أمامه سوى التسليم بواقع التعددية القطبية.