جدران منهارة تشبه أسناناً مكسورة، نوافذ بلا زجاج كأنها عيون فقدت آخر دمعة، الهواء مليء برائحة غبار ممزوجة بمرارة الحريق والموت والذاكرة، الأرض باردة، لكنها لا ترتجف كما يرتجف جسدها كلما دوّى القصف من بعيد.
تمشي بحذر، لا لأنها خائفة، بل لأنها تعرف أن حتى الحجارة قد تخون.
مرت على هذا الشارع مئة مرة في طريقها إلى المنزل، وحين كانت تشتري الخبز من الدكان الأزرق، وحين ركضت ذات صيف وراء أخيها الصغير.
كل تلك اللحظات تُركت هنا، الآن مطمورة تحت الركام، هي لا تبحث عن طعام ولا مأوى، رغم أن بطنها خاو، وقدماها تؤلمانها في الحذاء المهترئ.
هي تبحث عن شيء لم تعرف اسمه إلا حين فقدته، السلام..
تساءلت: أين يختبئ؟
هل هرب حين صمتت الضحكات في البيوت؟
أم حين توقفت الأمهات عن تنظيف الشبابيك؟
تعثرت بشيء معدني بين الحطام، نظرت، فلاحظت لمعة صفراء خفيفة وسط اللون الرمادي.
اقتربت.. كان بيتاً منهاراً، كانت تعرفه، البيت الذي كانت تقف فيه امرأة عجوز كل صباح، تسقي نباتاتها وترد السلام بنغمة ناعسة.
الآن.. بين كتل الإسمنت والحديد، نبتت زهرة صغيرة حمراء، هشة تشبه شقائق النعمان..
نظرت إلى الزهرة كمن يرى طفلاً يبتسم في مقبرة، كانت بتلاتها مكشوفة للريح، للرماد، للسماء القاتمة، ربما نبتت من دمعة، من ذكرى، من وعد قديم، وسط الرماد، لم تختفِ الحرب، لكنها شعرت بدفء خفيف، لا يشبه الأمل، ولا يشبه النسيان، بل يشبه القرار، أن تبقى على قيد الحياة لتشهد أن الحياة عنيدة.
في قلبها، كانت تحمل صورة الزهرة كأنها تعويذة، كبذرة أمل هادئة نبتت وسط كل هذا الخراب، لتقول: لن يطفئني الرماد…!.