الملحق الثقافي- نور شبلي – حلب:
«ألمسُ جمالَ خطّك حتّى في رسائلك الإلكترونيّة!» أوقفتني هذه الجملة التي لاطفتني بها إحدى صديقاتي، أثناء محادثتنا على برنامج المحادثة (واتس أب)، وكانت مثيرة لديّ لتساؤلات عديدة ومشروعة عن فنّ الرسائل، وعن وجوده بين الماضي والحاضر. يعدّ فنّ الرسائل أحد الفنون الأدبيّة؛ فهو فنّ قائم بذاته، وله أنواعه وميادينه المختلفة، وكما له جماليّاته الخاصّة؛ فالاهتمام الجماليّ بكتابته خوّله الانضمام إلى مصافّ الفنون الأدبيّة، فلم يقتصر كتّابه ولا سيّما الأدباء على الغاية النفعيّة الإيصاليّة التواصليّة فيه؛ وهي إبلاغ الرسالة، بل اهتمّوا بجماليّات الرسائل من بلاغة وبيان وأسلوب وشكل كتابيّ وخطّ حتّى غدا فنّ الرسائل بذلك ملتقى لجماليّات عدّة، وقراءته تُشكّل تجربة جماليّة ثرّة للمتلقّي. وفي هذا السياق نشير إلى أنّ إيلاء الرسائل اهتمامها بتلك الجماليّات هو الفيصل في انتمائها إلى الفنّيّ الجماليّ؛ فلا تغدو الرسائل فنّاً جماليّاً إلّا بتحقيقها لهذه الجماليّات، وإلّا فستكون رسالة وحسب، وستبقى محصورة في إطار الغاية النفعيّة التواصليّة. وثمّة نتاج فنّيّ رسائليّ جمّ في تاريخ الأدب العربيّ؛ ونمثّل لذلك بأدب الرسائل بين جبران خليل جبران وميّ زيادة، أو بين غادة السّمان وغسّان كنفانيّ. ومكانة فنّ الرسائل في الماضي تستدعي تساؤلاً آخر عن حال فنّ الرسائل في العصر الحاضر: لعلنا نجيب هنا إجابة ليس من باب تمجيد الماضي والنكوص إليه، بل من باب التوصيف الفنّي والتجلّي الجماليّ؛ ويمكننا القول بعدم حظوة الحاضر بحضور لفنّ الرسائل كما كان في الماضي، وبحدوث شبه غياب له، أو تضمّنه تضمّناً عابراً في فنّ آخر كما في الرواية مثلاً، ولكن هذا ليس مما يُعاب على العصر الحاضر؛ وهذا ما أخبرنا به التفكير الجماليّ وفلاسفته من شارل لالو وإتيان سوريو وسواهما، وما تلمسّناه عبر تاريخ الفنون من ولادة نوع فنّيّ واندثار آخر؛ فغياب فنّ الرسائل أو تراجعه كما في غياب أي نوع فنّيّ هو وليد غياب الحاجات الجماليّة لهذا النوع من الفنّون أو ذاك؛ وهذه الحاجات مرتبطة بطبيعة العصر الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة؛ فطبيعة العصر الحاضر ومستجدّاته ولاسيما التكنولوجيّة، والشابكة بفضائها الأزرق، أثّرتا تأثيراً بالغاً في الحياة كلّها، وحرفتا الجماليّات عامّة والفنّيّة خاصّة إلى مسار آخر، فأفرزتا جماليّات معاصرة مختلفة، وهذا ما تحدّث عنه فلاسفة الجمال، ومنهم مارك جيمنيز. فثمّة تأثير للتكنولوجيا الحديثة على حضور فنّ الرسائل في الحاضر، ولا سيّما أنّها بَسَّطت الإمكانيّة التواصليّة بين البشر بقدرات متعدّدة وبسهولة ويسر وسرعة فائقة، وربّما لفرط السهولة التواصليّة ومألوفيتها وسرعة إيصالها دورٌ في تراجع فنّ الرسائل، وهذا على خلاف ما كانت عليه الرسائل في الماضي؛ من صعوبة الإيصال، وبطء السرعة. وبإسقاط الضوء على الرسائل المتبادلة في برامج الاتّصال التكنولوجيّ سنلحظ اتّسامها عموماً بسمات عديدة، نذكر منها السمات الآتية:
– تصدّر الغاية التواصليّة من الرسائل، وإهمال التجلّي الفنّيّ الجماليّ لها.
– سيادة اللهجات العاميّة، وإهمال جماليّة اللّغة العربيّة وتعميق تراجع الاهتمام بها.
– أحاديّة نمط الخطّ الكتابيّ الذي فرضته الأجهزة الإلكترونيّة للكتابة في هذا الفضاء عبر لوحة المفاتيح وغياب جماليّة الخطّ اليدويّ.
– سهولة الإرسال وسرعة التواصل في الآن نفسه، وفي هذا تفوق الرسائل الفنّيّة. ومن الملاحظ أنّ ثمّة غلبة للسمات السلبيّة في الرسائل الإلكترونيّة وشبه غياب للجانب الجماليّ فيها، وفي هذا الإطار نشير إلى أنّنا لا نطالب بتحويل الرسائل كلّها إلى رسائل أدبيّة فنّيّة، ولا أن يتحوّل المتراسلون جميعهم إلى أدباء، ولكن إنّ السمات السلبيّة الملحوظة لرسائل اليوم في العصر الحاضر ربّما تستدعي أن نحيّي عدداً من جماليّات فنّ الرسائل، ونتمثّلها في رسائلنا.
العدد 1102 – 5-7-2022